icon
التغطية الحية

فواز قادري يكتب أناشيد سوريا في "أناشيد ميونيخ المؤجلة"

2022.06.15 | 06:43 دمشق

qadry.jpg
+A
حجم الخط
-A

ديوان (أناشيد ميونيخ المؤجلة) هو أحد إصدارات الشاعر السوري فواز قادري، صدر عن (دار الدراويش) منذ فترة وجيزة وقد طبع مرتين. وفيه يؤسس الشاعر فواز منذ البداية لمشروع العمل الشعري على أنه مشروع قائم على التجربة لا التخيل، ويريد لقصيدة ميونيخ أن تكون شاهدة على ما تساقط منه.

من البداية أيضا، يقيم قادري تقابلا تراجيديا بين مكانه الذي تركه على ضفاف الفرات، ومكانه الجديد الذي بنى عليه قصيدته. لتكون ميونيخ "توأم تلك التي تركتها على الفرات" ص 14، فهو ما يزال "تلك الموجة التي لم تغادر "الحصيوة" ص 15، ثم يعلن صراحة أن اسم تلك المدينة التي شكلت طرف الثنائية هو (دير الزور). وفي لقاء المدينتين تتحد القارات، ميونيخ أسبغت عليه المطر، هو المتصحّر من داخله، وليس التصحر إحساسا لغويا بقدر ما هو وليد الشرخ الوجودي في ذات الشاعر، المهاجر السوريّ، وتلك اللحظة بين (مطر) المنفى و(تصحّر) الذات لحظة عاناها كل لاجئ سوريّ. وفيما الزمان يعبر ميونيخ ويتحرك، فإن مدينته الأصلية تمر فيها سنوات تشبه التابوت. وهكذا تمضي نصوص الديوان متشظية بين فضاءين يخلق الشاعر من تناقضهما لحظته الشعرية المتوترة.

يشكل فواز لغته من أنقاض مدينة غادرها ومن بناء مدينة لجأ إليها، ويصبح الخطاب الشعري مشروخا موزعا بين مدينتين، لا وجود لأحد طرفي الخطاب دون الآخر، وكأن أناشيد ميونيخ الحاضرة الآن، هي أناشيد دير الزور الغائبة.

حوّل الشاعر مدينة ميونيخ إلى هيكل للاعترافات الأليمة، يقف أمامها ليتلو عليها حياته التي كانت تمرينا على الموت، فبلاده لقمة للطائرات التي تهوي بسكاكينها على أعناق العباد والأحجارـ وفي ذلك الهيكل يعثر الشاعر على من يصغي إليه، فالمنفى رغم آلامه عادة ما يمارس دور الإصغاء لما يقوله اللاجئ، الذي بدوره يقوم بتحويل المنفى تلقائيا إلى مكان للاعترافات والتذكّر.

لكن الشاعر لا ينتهز الفرصة ليروي لميونيخ سيرة مدينته، بلاده، فقط؛ بل هو يقرأ في تاريخ المكان الجديد ويستنطق كائناته وطبيعته وتقاليده، وكلما استحضر خراب مدينته نراه يستحضر الحياة في المدينة الجديدة. وما ذلك إلا محاولة شعرية لترميم خرابه الذاتي: (ميونيخ ثعلبٌ أم غزالٌ؟ | البحيرات رسائل السماء الصامتة | والبحر لقيط العاصفة) ص 28.

عليه كشاعر أن يكتشف المدن ويغني كالشعراء الجوالين ويتأمل في تفاصيل الكائنات وحركتهم ليلا نهاراً، وفي رحلة الاكتشاف هذه سوف نقرأ كثيرا من أسماء أماكن ميونيخ، ومع الأماكن سوف نعاين انعكاسها على ذات الشاعر ولغته وهو يحسّ أنه (سمكة) قذفت بها عاصفة من مكان بعيد.

أمام الشاعر حالتان لا بد منهما في وقت واحد معاً، هويته التي يحملها في داخله ومن خلال وعيه لذاته ومن هو، ثم هويته من خلال وعي الآخر، مع ما تمليه هاتان الحالتان من مدّ وجزرٍ في اللغة بمفرداتها وتعبيراتها، فقد برزت لدينا أيضا قائمتان من الكلمات، أو حقلان لغويّان في كل حقل تندرج عشرات المفردات المنتمية لعائلة واحدة تقابل مفردات أخرى من عائلة ثانية، حقل من الذاكرة وحقل آخر من واقع المهجر ـ المنفى، حقل اختزنه داخله وحقل آخر يتشكل أمامه الآن. ولأن الشاعر مطالب بأن يحيا (الآن) وليس في (الماضي) فقد كانت معاناته مع التوفيق بين الحقلين معاناة واضحة للقارئ. يذهب الشاعر في اكتشاف المكان الجديد لكي يضيفه إلى ذاكرته، لكي يعمّق من معنى هويته، من خلال دخوله في عملية حوارية تبادلية مع (الآخر) المعبر عنه بمدينة ميونيخ بتفاصيلها وثقافتها ورائحة تاريخها.

يريد الشاعر أن ينشئ نصا شعريا خاصا بميونيخ كما يعيها هو، غير مكترث بما كتب عنها آخرون، فهو منشغل بكيفية العلاقة الخاصة بينه وميونيخ، لذلك فإن ما سيقوله عن حاناتها هو غير ما قيل، ونساؤها اللواتي ممرن في قصائده هنّ نساء مختلفات عمن مررن بقصائد سواه (الأغاني التي أسمعها كانهمار الشلال غير التي تشبه نشيج سجين في زنزانة منفردة) ص 45.

وفيما يرى جمال ميونيخ وما تفعله للإنسان، لا يستطيع الفكاك من أيامه (المصلوبة كأسرى الرومان على الطرقات | وهناك في بلادي وحوش كثيرة ومهازل مفجعة | تشبح الأسرى الأبرياء بشكل معكوس | الرأس يتفرّس بالتراب | والأقدام تعدّ النجوم) ص 46.

على هذا النحو نحن أمام نصّين داخل النص الواحد، نصّين يتزاحمان ويتشاجران ويتصادقان، نصّ البلاد والذكريات والطفولة، ونصّ المنفى وواقعه. وكأن فواز يعثر في ميونيخ على ما يسمى (المعادل الموضوعي) الذي من خلاله يبني قصيدته الطويلة، فيترك هذا (المعادل) ينطق باسمه باسم ذاكرته، باسم انكسار ذاته المزمن، ومحاولة ترميمه الآن بعيدا عن القتل وطائرات الجريمة والبراميل المتفجرة.

"في ميونيخ التي تشبه الحديقة

والعيدُ على الأبواب

أبحث عن ذلك الصغير المتواري

في حارة على الفرات" ص 56

إن هذا (الصغير المتواري) هو من يكتب هذه القصيدة التي امتدت على طول الكتاب، فهو حاضر مباشرة أو غياباً، ولأن الشعر مأخوذ كثيرا بلغة الطفولة وذاكرتها (أو يحاول أن يكون كذلك) فسوف نلمح تلك العفوية والانسيابية في لغة فواز في جميع ما يكتبه على الأقل في سنواته الأخيرة. لغة متدفقة بحيوية وطلاقة ونشاط يشبه نشاط الطفل الذي لا يتوقف عن الحركة واللعب والشغب، ولا يكفّ عن ردود فعله المندهشة بالأشياء أمامه، ففي كل مرة لا بدّ من صدمة الدهشة، وهذه الدهشة سوف تتوزع على أشكال متناقضة من الفرح والسرور، ثم من الألم والقهر، وفي الحالتين يستسلم الشاعر لذلك (الصغير المتواري) تاركا تعبيراته تأخذ صدى ذلك الطفل المصاحب له في كهولته.

لا ينفصل إحساس الطفل عن إحساس الشاعر أبدا، فهما موقف متماهٍ ومتّحدٌ، وكل شاعر فرّط بهذا الاتحاد بين إحساسه وإحساس الطفل هو أغر تعيس في فقر في الرؤيا والمخيلة. والنصان المتداخلان في الكتاب، نصّ الذاكرة ونصّ الواقع، يعطيان فرصة أكبر لينشط ذلك الطفل بإحساسه الثنائي، لأن التجربة التي يحياها الشاعر الآن تجربة كبيرة على الصعيد الشخصي وكبيرة على الصعيد العام، وكلا الفضاءين محمّل وغنيّ بأسباب الدهشة والصدمة. ولكي نصوغ هذه الفكرة منهجيا بوضوح أكثر، نقول إن فواز قادري يكتب في (أناشيد ميونيخ) نصّ سوريا مع نصّ ألمانيا في جدل أليم وقاهر، ويمكن القول بثقة تكاد لا تخلو صفحة من الديوان من وجود هذين النصين المتداخلين (سوريا وألمانيا). وليست المسألة هنا (نوستالجيا) على الإطلاق، فالكتابة عن بلاد يقتل شعبها في الشوارع والمعتقلات ليست كتابة حنين وشوق، الكتابة عن دم في كل مكان حتى ليكاد الشاعر يلمس دم بلاده في كل مكان في ميونيخ، هذه الكتابة ليست حالة مرضية كما قد تقتضي سيطرة النوستالجيا، كيف يمكن للشاعر مسح ذاكرته التي هي ليست ذاكرة إلى هذا الحدّ بقدر ما هي وقائع تحدث الآن ومباشرة؟ الشاعر يرفض إلغاء هذه الذاكرة الحيّة بحجة أنه يعيش اللحظة الراهنة، فاللحظة الراهنة هي نفسها البلاد المقتولة، هي نفسها التي تقصف وتهجر وتعتقل كل ساعة.

تحضر البلاد لأنها ذات الشاعر وليس كموضوع للإنشاء الأدبي:

"كلما رفرفت أجنحة حولي

أزّت رصاصات الصيادين فوق رأسي

وانتصبت فخاخ لا ينجو منها أحد

النوافير تذكرني بمرور رصاصة الجندي

في جسد الصغير

تولد نافورة ويتدفق الدم من الجروح

ينام الماء في الأسفل وتصرخ الروح في الأعالي

وأنا أتشاغل مع امرأة بالحديث عن الطقس

كي أمنع سقوط السماء على رؤوس الحمام" ص 99

هذه الصورة الأخيرة في هذا المقطع الشعري ذات أثر وجدانيّ وفنيّ عالي التوتر (أن يمنع الشاعر سقوط السماء على رؤوس الحمام) من خلال تشاغله بالحديث عن الطقس مع امرأة! ولا شكّ أن تحليل مثل هذه الصور الفائقة الجمال يفسد شيئا من جمالها، لكن هذا لا يمنع من الاعتماد على الصورة من أجل التأكيد على مجموعة دلالات ومعان اختصرت في الصورة نفسها. فنحن هنا أمام مفتاح جماليّ لقراءة الديوان كله، إن الشاعر الذي يحمل في داخله بلاده وقتلاها ولاجئيها ونوافير دمها، لا يفوت فرصة للاستمتاع بالحياة الطبيعية العادية (حديث مع امرأة حول الطقس) فهذا التقليد عادة ما يكون في الغرب بوابة للدخول إلى عالم المرأة أو أي كائن آخر يمكن أن تبادره للتعارف بالحديث عن الطقس، لكن الشاعر هنا لا يقصر الحديث عن الطقس مع امرأة لأجل المتعة فقط، بل هناك هدف أعمق وأخطر، إنه يريد أن يمنع السماء من السقوط فوق رؤوس الحمام، وكأن لحظات الجمال التي يرصدها الشاعر لنا في خطابه الشعري ما هي إلا من أجل أن يدافع عن الحمام في السماء، باعتبار الحمام رمزا للحياة العادية والسلام والحب.

كأن الشاعر يريد أن يقول لنا هنا إن كل ما يفعله في الشعر من وقوف عند جماليات يومية وعابرة هو من أجل تمجيد الحياة والقيم الجمالية.

ولأجل هذه الفكرة فهو كتب قصيدته الطويلة تلك، التي يمكن القول أخيرا ومرة ثانية، إنها ليست فقط أناشيد ميونيخ، بل هي أناشيد سوريا.