فنجان قهوة مع بهجت سليمان (2)

2021.03.12 | 05:33 دمشق

q4p8qlq0vi6wsge2nfyjxqzlgvfdpslq2deghvej.jpeg
+A
حجم الخط
-A

لم يكن بهجت سليمان الضابطَ الوحيد الذي يحتسي القهوة مع مثقفين سوريين، موالين أو معارضين، مع العلم بأن معظم هؤلاء الضباط العتاولة يفضلون شرب القهوة مع المعارضين أكثر من الموالين. لماذا؟ لأن مجالسة المثقف الموالي، بالنسبة إليهم، مملة، يُمضيانها بتبادل النفاق، وتمسيح الجوخ، والمزايدة، فإذا قال الضابط إن معارضي النظام مخطئون، مثلاً، ينط له المثقف الموالي الشبيح ويتهمه بطيبة القلب الزائدة عن اللزوم، لأنه يكتفي بالقول إن المعارضين مخطئون، بينما الحري به أن يقول إنهم مشبوهون، عملاء، مرتبطون بالدوائر الاستعمارية والصهيونية، خونة.. وإذا عبر الضابط عن حبه لحافظ الأسد، يسرد المثقف الموالي الشبيح عليه وقائع ما يكابده من أرق مصحوب بالصفن والتفكير على أمل أن يصل إلى الطريقة المثلى للتعبير عن هذا الحب المضني لهذا القائد المغوار.. ومما يروى عن مثقف شاعر شبيح أنه شرب قهوة مع ضابط مخابرات، وقرأ له قصيدة في مديح حافظ الأسد، وبعد لأي عرج على مديح رفعت، وجميل، والباسل، وأنيسة، وماهر، ومجد، وبشرى، ثم تصدر إلى الخلف، ورسم على وجهه ابتسامة الظفر، وسأله:

- كيف شفت لي هالقصيدة سيدي؟ لا تقلي مانا كيسة.

فرد عليه باقتضاب: كيسة.

وفي أول جلسة صفا لذلك الضابط مع أحد زملائه، على كأس ويسكي، راح الاثنان يسخران من أصدقائهما المثقفين الشبيحة، ويضحكان، إلى أن قال صاحبنا:

- اليوم زارني الشاعر فلان، وقرا لي قصيدي.. بتعرف؟ أنا مَ إسمع القصيدي وهوي مَ يمدح الرئيس وعيلة الرئيس، كنت مَ قول لحالي: العمى يضرب جوز عيونه، ولاك هاي قصيدي شعريي ولا حصر إرث لعيلة الرئيس؟!

كان في سوريا أكثر من ضابط أنشؤوا علاقات مع المثقفين (أدباء وصحفيين وفنانين)، كان بينهم وزير الدفاع ذو النياشين العماد مصطفى طلاس الذي لم يكن كاتباً ومثقفاً وحسب، بل إنه صاحب مؤلفات كثيرة، وعنده دار نشر.. واللواء محمد إبراهيم العلي قائد الجيش الشعبي، الروائي العالمي الذي كانت تترجم أعماله الروائية إلى الروسية أولاً بأول.

لم يكن اللواء "العلي" مجرد ضابط مثقف يجالس المثقفين ويشرب معهم القهاوي، بل كان يتيح للمثقفين المُساقين إلى خدمة العلم فرصة ذهبية لأن يمضوا خدمتهم العسكرية عنده، فيتخلصون من ارتداء الخاكي والـ أح تنين، وحمل السلاح، وكيس البحار، والركض والغبرة وقلة القيمة، إضافة إلى إيفادهم إلى الدول الاشتراكية برفقة سيادة اللواء، وهذا النعيم كله له مقابل واحد هو مساعدة سيادة اللواء في تأليف رواياته التي لا يجوز أن يقل وزن الواحد منها عن 2 كيلوجرام. 

يروي الصديق الروائي والمسرحي غسان الجباعي حكاية المصادفة التي قادته للتعرف على اللواء العلي في مكتب صديق مشترك.. كان اتحاد الكتاب الذي يديره علي عقلة عرسان، يومذاك، قد فصل أدونيس من عضويته، فأعلن حنا مينة وسعد الله ونوس استقالتيهما من الاتحاد احتجاجاً على هذا الإجراء التعسفي، وهذا ما أثار غضب سيادة اللواء، فراح يهاجم اتحاد الكتاب العرب، وأدونيس، ذلك المارق الذي يلتقي، في أوروبا، مع الكتّاب الإسرائيليين والصهاينة، ويشتم، ويسب، ويكاد أن يبصق، وهو يقول إنه سـ (يفعس) رأس حنا مينة بحذائه، ويدوس على رقبة سعد الله ونوس، وأمثاله من العرصات، أشباه الكتاب، وفجأة التفت إلى غسان وبادره بسؤاله المفاجئ:

- إنت شو رأيك أستاذ؟

قال غسان متردداً: أنا؟ أنا ما إلي رأي..

فغضب وقال معاتباً: لكن إنتْ بحسب ما قالوا لي الشباب كاتب ومخرج. ولازم يكون إلك رأي..

رد عليه غسان: بصراحة، أنا خايف منك! إذا كنت بدك تفعس راس الروائي الكبير حنا مينة، وتدوس على رقبة رمز المسرح السوري سعد الله ونوس، شو ممكن تعمل فيني أنا إذا بقول رأيي قدامك!؟

لم يكن استخدام مصطلحات من قبيل فَعس ودعس وسحق وتطهير خاصاً بالروائي إبراهيم العلي، بل هو قاموس يستخدمه عتاولة نظام الأسد كلهم، على لَمّ الفراش.

لو أن شاباً سوياً وصل والدُه إلى فراش الموت، وصار يشهق ولا يلحق بسبب تغلغل فيروسات الكورونا في رئتيه، لدعا الله أن يشفيه ويعافيه، ولطلب من جميع الناس الذين كانوا يتعاملون معه خلال حياته أن يسامحوه.. ولكن الشاب حيدرة بهجت سليمان الذي ترتسم على وجهه علامات الهبل خالف القاعدة، وكتب على صفحته الفيسبوكية أن أباه (سَحَق) كل مَن فكر أن يتجرأ بكلمة على الأسدين البشار القائد، والمغوار الماهر، إضافة إلى الحافظ الأب.

يحكى أن ضابطاً يعمل بصفة محقق في إحدى الشعب الأمنية، قال لمثقف معتقل، أثناء التحقيق:

- ولاك حيوان، أنتوا المثقفين ما بيعجبكم شي يعني؟ بحضي بديني تا ندعس على روسكم دعس، ولاك إنتوا..

فقاطعه المثقف قائلاً: عفواً، عندي تصحيح زغير.. أنا مو مثقف..

فتهلل وجه المحقق، وشقرق، وقال له:

- على راسي ربك والله.. يعني أنت كيس وفهيم مثلنا.. ما هيكه؟!

لا شك، أخيراً، أن مصطفى طلاس، ومحمد إبراهيم العلي، وبهجت سليمان وأمثالهم، ليسوا أكثر من كائنات هامشية استمدت قوتها وثروتها وجبروتها من خلال كونها ملحقة بعائلة الأسد. ولكن كل واحد منهم استطاع أن يجمع حوله قطيعاً من المحبين والمريدين وماسحي الجوخ، وهذه الحالة يمكن أن نستوعبها أكثر من خلال الحكاية التي رواها المخرج مأمون البني، حيث كتب:

في عام 2003، على ما أذكر، كنت أصور مسلسل مرايا في اللاذقية. علمنا أن قريباً لبهجت سليمان قد فارق الدنيا. وبما أن نصوص مرايا كانت تحت رقابة الأمن، طلب مني ياسر العظمة أن نذهب سوية لنعزي المغوار بهجت، خاصة أننا نصور في عقر دياره.

ذهبنا، واستقبلنا استقبالاً كبيراً، وأجلسنا بجانبه، في الوقت الذي بدأ أحد الشيوخ يرثي مناقب الفقيد، وبعد أن وصفه بأفضل الكلمات الرنانة كالشهامة والعزة والكبرياء، انتقل إلى بند الدعاء، فقال إن الله سبحانه وتعالى يغفر للذين يموتون في عمر الشباب ربعَ ذنوبهم، فأشار له أحد المرافقين بيده أن المتوفى أكبر، فقال وإذا كان الفقيد عمره حوالي الخمسين فالذنوب تقل أيضاً للنصف، فعاود المرافق ليشير له أن المتوفى أكبر سناً، فقال أما إذا كان المتوفى أكبر من الستين فسيغفر الله ثلاثة أرباع ذنوبه وصدق الله العظيم، وإذ يلمح يد المرافق تشير بأن فقيد الجنرال كان أكبر سناً، وهنا بدأ الخوف ينتابه ووجد أن عليه الخروج هذه الورطة، فقال:

- ولا تنسوا، عندما يصل المرء إلى أرذل العمر ويختاره رب العالمين فله جنة الفردوس لا محال، فكيف إذا كان المتوفى من أقارب الرفيق المناضل الرفيق الساهر على أمن الوطن والمواطن العقيد الركن سيدنا بهجت سليمان.. والسلام عليكم ورحمة الله.

قال قوله هذا وأسرع باتجاه الباب..