"فاكس الجينوسايد" المسافة بين القلب والفعل 1

2023.08.31 | 06:38 دمشق

آخر تحديث: 31.08.2023 | 06:38 دمشق

"فاكس الجينوسايد" المسافة بين القلب والفعل 1
+A
حجم الخط
-A

في واحد من تصريحاته، يقول رافائيل ليمكين، وهو كاتب اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية عام 1948: "إن هدفي السياسي في الحياة هو تقصير المسافة بين القلب والعمل"، ليمكين يهودي بولندي ناجٍ من الهولوكوست. بعد 66 عاماً سيكتب سايمون آدامز المدير التنفيذي للمركز العالمي للمسؤولية عن الحماية، ضمن مقالة رأي نشرتها "هافينغتون بوست" مطلع عام 2014، إن مجلس الأمن كان "غير ذي فاعلية، بشكل لا يغتفر، في وقف الفظائع الجماعية في سوريا، رغم أن هذا لم يمنع المجتمع الدولي من فرض العقوبات وقطع العلاقات مع دمشق، وخلافاً لما حدث في رواندا عام 1994 فقد تحدثت الأمم المتحدة علناً".

في أثناء الهولوكوست عام 1942، كتب ليمكين إن الدبلوماسية تتطلب الصبر حسبما يقال لنا، "الصبر كلمة طيبة عندما يتعلق الأمر بقرار شق طريق وتخصيص ميزانية له، لكن عندما يكون الحبل حول عنق الضحية والخنق وشيك، تصبح كلمة الصبر إهانة للعقل وللطبيعة". في الحادي عشر من كانون ثاني/يناير عام 1994، وتحت وسم "عاجل جداً وهام"، كتب الجنرال الكندي روميو دالير قائد قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في رواندا رسالة "فاكس" إلى رؤسائه في نيويورك، يخبرهم أن لديه معلومات موثوقة، حصل عليها من "مدرب رفيع المستوى" لمجموعة ميليشيا موالية للنظام تدعى "إنتراهاموي" تفيد بأن هناك مخطط يُحاك للقيام بعملية إبادة للتوتسي.

بعد ثلاثة أشهر من رسالة دالير، ستبدأ المذبحة الأشهر في نهايات القرن العشرين والتي قتل فيها خلال 100 يوم فقط، ما بين 800 ألف حسب أقل التقديرات، ومليون حسب أقصاها

التوتسي مجموعة عرقية مناهضة للحكومة الديكتاتورية التي تسيطر عليها قبائل الهوتو في رواندا. بعد ثلاثة أشهر من رسالة دالير، ستبدأ المذبحة الأشهر في نهايات القرن العشرين والتي قتل فيها خلال 100 يوم فقط، ما بين 800 ألف حسب أقل التقديرات، ومليون حسب أقصاها. فيما بعد، ستعرف رسالة دالير، في الصحافة والأدبيات السياسية بفاكس الإبادة الجماعية "Genocide Fax". بمرور الوقت ستصبح التسمية رمزاً لفشل المجتمع الدولي في منع الإبادة الجماعية.

في رسالته، كان دالير طلبَ تخويله مداهمة عدة أماكن لتخزين الأسلحة التي ستُوزّع على القتلة المحتملين، حددها له المصدر في العاصمة "كيغالي"، مؤكداً أنه يمكن القيام بالعملية بنجاح مع قواته. طلبه الثاني كان تأمين حماية الأمم المتحدة لمصدر المعلومات المدرّب "جان بيير توراتسينزي" مع زوجته وأطفاله بعد إخراجهم من رواندا. جان بيير سيُدعى تالياً "أبو بكر" بعد اعتناقه الإسلام، قبل مقتله خلال المعارك وعمليات الإبادة.

ردًا على الفاكس، رفض مسؤولو الأمم المتحدة طلبات دالير. كان الرد يحمل توقيع كوفي عنان رئيس عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة آنذاك، قبل أن يتسلم الأمانة العامة خلفاً لبطرس غالي. بدلاً من ذلك، طُلب إليه إبلاغ "جوفينال هابياريمانا" رئيس رواندا بادعاءات المخبر، على الرغم أن المخططين للإبادة هم من المقربين جداً للرئيس!. كان على الرجل أن يخبر القتلة بما ينوون القيام به! وقد استجاب للأمر. كانت تلك واحدة من أهم نقاط التحول، التي أدّت إلى فشل الأمم المتحدة، في اتخاذ إجراء كان من الممكن أن يمنع الإبادة الجماعية.

عمل دالير بموجب حدسه، وقد أثبتت الأشهر اللاحقة أنه كان دقيقاً، وقد ختم رسالته بشعار عسكري فرنسي كيبيكي قديم، هادفاً إلى إقناع رؤسائه في نيويورك بضرورة الموافقة على خطته للاستيلاء على مخابئ الأسلحة: "حيثما توجد الإرادة، هناك طريق. فلنمضي"، لكن الرد جاء ليقتل أي إرادة، وليقطع كل طريق لتفادي المجزرة. سيبرر كوفي عنان فيما بعد، بأنهم كانوا تحت تأثير "متلازمة الصومال" حيث خسروا جنوداً دوليين قبل أشهر قليلة، وأنهم لم يرغبوا أن يقتل مزيدا من الجنود. إضافة إلى عدم الوثوق بمعلومات المُخبر.

للمفارقة في أول يوم من المذبحة سيقتل المهاجمون عشرة جنود بلجيكيين بعد تعذيبهم وتشويههم في العاصمة الرواندية. عندما أنشأ مجلس الشيوخ البلجيكي لجنة للتحقيق في الظروف التي ذبح فيها الجنود، رفض كوفي عنان السماح للجنرال دالير بالإدلاء بشهادته. في رسالة إلى الحكومة البلجيكية، أوضح عنان أن مسؤولي الأمم المتحدة السابقين والحاليين محميون بالحصانة الدبلوماسية!

كان دالير قد كتب مذكرة طويلة إلى نيويورك في 31 كانون الثاني/يناير، مستشهداً ببند في اتفاق أروشا للسلام، يسمح لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة "بالمساعدة في استعادة جميع الأسلحة التي حصل عليها مدنيون بشكل غير قانوني"، ولم يُفِده كل ما كتبه بشيء

في السادس من نيسان 1994 أُسقطت طائرة كان على متنها الرئيس الرواندي ورئيس بوروندي، وقتلا معاً. ستكشف التحقيقات فيما بعد أن مجموعة إنتراهاموي، والتسمية تعني "أولئك الذين يقاتلون معاً"، هي من كانت وراء الحادث، بهدف التخلص من الرئيس الذي اعتبروه مهادناً، إذ وافق على اتفاق أروشا الموقع في تنزانيا، والقاضي بتقاسم السلطة مع التوتسي. واقع الأمر، كان السبب الحقيقي للعملية أن يكون مقتل الرئيس الذريعة لبدء الإبادة المخطط لها مسبقاً. في اليوم التالي، باستثناء أن القتلة استخدموا السيوف والفؤوس والبلطات أكثر من الأسلحة التي وُزِّعت عليهم، فإن نبوءة جان بيير ستبدأ بالتحقق بدقة مرعبة. أشارت التقديرات أنه تم قتل خمسة من التوتسي في كل دقيقة.

كان دالير قد كتب مذكرة طويلة إلى نيويورك في 31 كانون الثاني/يناير، مستشهداً ببند في اتفاق أروشا للسلام، يسمح لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة "بالمساعدة في استعادة جميع الأسلحة التي حصل عليها مدنيون بشكل غير قانوني"، ولم يُفِده كل ما كتبه بشيء. والأدهى أن الدول أعضاء مجلس الأمن تصرفت فيما بعد، على نحوٍ أكثر خزياً وجبناً خلال المذبحة، وسوف آتي على هذا الأمر لاحقاً. لكن للإنصاف، بعد مقتل مليون رواندي، ستعتذر تلك الدول عن تقصيرها! وستعترف أنها تعلمت درساً قاسياً، من أجل عدم تكرار أي إبادة مستقبلاً.

طبعاً تخمنون جميعاً أنني أريد، بما أكتب، الوصول إلى الحالة السورية، وما شهدَته من إبادة تكاد تكون منقولة على الهواء مباشرة إلى أربع جهات الأرض على مرِّ سنوات، وهذا صحيح. لكن قبل ذلك، وأرجو صبركم، تصوروا معي أنه في "فاكس الإبادة" كتب دالير أن الميليشيات تتدرب على الإبادة (الهولوكوست)! وأكثر من ذلك، أورد معلومة نقلاً عن جان بيير، أنهم يتدربون على "قتل ألف من التوتسي كل عشرين دقيقة". رغم ذلك لم يحرك أحد ساكناً، ما يدفعني هنا لترديد سؤال دالير المأساوي. بعد سنوات، في واحدة من مقابلاته التفزيونية في بلده كندا قال: "إذا كانت الحكومات تخشى تعريض عسكرييها للخطر في مواجهة إبادة جماعية، فلماذا يرسلون الجنود إذا؟ كان عليهم أن يرسلوا فتيان الكشافة".