فاعليَّة الأمم المتحدة.. روسيا وأوكرانيا مثالًا

2022.03.12 | 05:12 دمشق

1383322680044401000.png
+A
حجم الخط
-A

كم تبعد حالة مجلس الأمن، وهو يقرِّر في شأن الغزو الروسي لأوكرانيا عن الحالة التي وصفها إيمانويل كانط، في كتابه "مشروع للسلام الدائم"، لظروف ما قبل وصول البشرية إلى قوانين عامَّة، و"جامعة أمم"، تكون الحَكَم على تصرُّفات الدول المتنازعة، إذ قال: "وإذا صحّ أنَّ "معاهدة السلام" تضع حدًّا للحرب الأهلية الراهنة، فهي لا تضع حدًّا لحالة الحرب (التي يمكن دائمًا أن تُنتحَل لها حُجَّة جديدة لا يستطيع أحدٌ أن ينعتها بالجور، ما دام كلُّ واحدٍ في تلك الحالة هو الحَكَم في قضيته)".

صحيحٌ أن الأمم المتحدة يشترك في عضويتها دول عالمية عديدة، وأنها تشارك، على نحوٍ ما في اتخاذ القرار الأُممي، لكن آليَّة اتخاذ القرار، ولا سيما في مجلس الأمن يعتورها خللٌ مُعَطِّل، وهو المتمثِّل بحقِّ النقض "الفيتو".

ومثال على ذلك، الغزو الروسي لأوكرانيا: روسيا التي تغزو أوكرانيا هي التي ترأَست مجلس الأمن، الذي فشل في اعتماد قرارٍ "يستهجن" العدوان العسكري الروسي على البلد (الذي لم يعترف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بوجوده، ولا برئيسه)، وطالب القرارُ الاتحادَ الروسي بوقف الاعتداء؛ بوصفه انتهاكًا لسيادة أوكرانيا، واستقلالها، وسلامتها، ووحدة أراضيها.

حاولت الولايات المتحدة تمرير القرار بتخفيف لهجته؛ باعتماد "الاستهجان" بدل "الإدانة"، وفي تصنيفه، إذ لم يُدرَج مشروع القرار تحت الفصل السابع، وهو الذي يجيز استخدام القوة العسكرية، (في حال قرَّر مجلس الأمن وقوع تهديدٍ للسِّلْم، أو إخلال به، أو كان ما وقع عملًا من أعمال العدوان)؛ لحفظ السِّلْم والأمن الدولي، أو إعادته إلى نصابه.

اعتبر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، القرار الروسي "انتهاكًا لسيادة ووحدة أراضي أوكرانيا"، رافضًا الذريعة الروسية، وهي حفظ السلام"

مع أنّ الحاصل هو عدوانٌ روسيٌّ عسكريٌّ على دولة عضو في الأمم المتحدة، وذات سيادة؛ فلم يثبت أن أوكرانيا اعتدت على الأراضي الروسية، وعكس ذلك اعتبر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، القرار الروسي "انتهاكًا لسيادة ووحدة أراضي أوكرانيا"، رافضًا الذريعة الروسية، وهي حفظ السلام"، إذ قال: "عندما تدخل قوَّات دولة لأراضي دولة أخرى، دون موافقتها، هي ليست قوَّات حفظ السلام"، لكن الفيتو الروسي عطّل القرار.

وكانت مجمل تبريرات الامتناع عن التأييد قائمة على تفضيل الحوار، والتفاوض، والدبلوماسية، وهي الذريعة التي تسُوقها أميركا، عادةً، عندما تستخدم حقَّ النقض، ضدّ أيِّ قرار يدين دولة الاحتلال، أو يهدف إلى إلزامها بالخضوع لقرارات الشرعية الدولية، برغم تملُّصها الدائم من مُخرَجات التفاوض، أو رفضها المرجعيات الدولية له.  

وفي المرجعية الأخلاقية والإنسانية، على صعيد الممارَسة، كان للمندوب الروسي مجالٌ للجدل، إذ لا تستند الولايات المتحدة إلى أرضية متماسكة، وهي التي طالما فضّلت مصالحَها، وتجاوزت الشرعيةَ الدولية، في تدخُّلاتها في شؤون الدول، وفي احتلالاتها.

وفعلًا، تحظى أميركا بسجِّلٍ غير مشرِّفٍ في احترام سيادة الدول، وهي لم تستند في حالات متكرِّرة إلى أسباب موضوعية في غزوها، وتقويضها أركان البلاد التي غزتها، ثم تركها نهبًا للفساد، أو الفقر، كما حصل في الاحتلال الأميركي للعراق، عام 2003، مثلًا، حين اعترضت فرنسا وروسيا والصين على ضرب العراق، بالاستناد إلى القرار"1441"؛ لأنه لا يجيز استخدام القوة، تلقائيًّا، وكذلك حين قامت بغزو  أفغانستان، عام 2001، ثم احتلالها، لم يكن ذلك بإذنٍ من مجلس الأمن، هذا، فضلًا عن الانتهاكات العديدة التي ارتكبتها أميركا، في ذينك البلدين، و(غيرهما) بحقِّ المدنيِّين، وتحكُّمها في ثرواتها، وجاءت تلك السياسات الأميركية غير الواقفة على القانون الدولي، أو قرارات مجلس الأمن؛ تماشيًا مع مفهوم أميركا للحروب الوقائية والحروب الاستباقية، أو لأغراض ترسيخ الهيمنة، والهيبة الأميركية.

وللمفارقة، فإن خطابًا روسيًّا رافضًا للحروب خارج قرارات مجلس الأمن استند إلى ضرورة توفُّر تفويضٍ من الأمم المتحدة، جاء ذلك على لسان وزير الدفاع الروسي السابق، سيرجي إيفانوف، حين كتب في مقالته: "مع نموِّ الناتو تزداد أسباب القلق لدى روسيا"، جريدة نيويورك تايمز، إبريل 2004: "الأمم المتحدة، وحدَها، هي القادرة على إعطاء تفويضٍ باستخدام القوة العسكرية، عبْر حدود معترَف بها، دوليًّا. وأيُّ عمل يقوم به الناتو، دون موافقة الأمم المتحدة، يجب أن يعتبر غيرَ شرعي- بما في ذلك (الحروب الوقائية) كحرب العراق".

وكذا، جاء الموقف الروسي من نظام الأسد في سوريا: أنه لا يجوز تغيير الأنظمة بقوة خارجية، مع أن نظام الأسد ينطوي على أسبابٍ قوية للتشكيك في شرعيته، سواء من حيث طريقة استيلائه على السلطة، أو من جهة ممارساته القمعية الفائقة الوحشية، أو من جهة الانقسام الكبير حول صلاحيته، شعبيًّا. 

النتيجة ضعف الثقة بالعدالة الدولية، وزيادة الاعتماد على القوة العسكرية، بوصفها الملاذَ الحقيقيَّ والعملي لدرء الأخطار   

ولكن السؤال الجوهري يتركَّز على نظام الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، بوصفهما المرجعية القانونية للنزاعات الدولية، ففضلًا عن اختلال تمثيل، الدول دائمة العضوية، في مجلس الأمن، وكونه يمثِّل ما اعتقدت الدولُ المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، أنه سيكوِّن شكل العالم، في أعقاب تلك الحرب، دون مراعاة لعدد السكّان، أو حتى لتوزيع العضوية على القارَّات، فقارّة إفريقيا كاملةً ليس لأيِّ دولة من دولها حقُّ العضوية الدائمة، في مجلس الأمن، كما ليس لأيِّ دولة من أميركا اللاتينية، أو من بلدان الشرق الأوسط مثل هذا الحق، فإن آليَّة اتِّخاذ القرارات تنطوي على عوارٍ كبيرٍ وفاضح، يتجسَّد في "حقِّ النقض"، وهو يمنح لكلِّ الدول الخمس، حتى لو كانت إحداها هي المعتدية، أو المشتبَه باعتدائها، كما هو حال روسيا، اليوم، فبكلِّ بساطة عطّلت روسيا القرار، وحكمت على نفسها بالبراءة.

والنتيجة ضعف الثقة بالعدالة الدولية، وزيادة الاعتماد على القوة العسكرية، بوصفها الملاذَ الحقيقيَّ والعملي لدرء الأخطار، بل دفع الدول نحو امتلاك السلاح النووي، كما قال المنظِّر السياسي الأميركي، ريتشارد هاس في كتابه" الفرصة"، في معرض تحذيره من ضمّ الصين لتايوان: "إذا عمَد البرُّ الصيني الرئيس إلى استخدام القوة العسكرية، يجب عدم السماح له بالنجاح في إعادة توحيد البلد، إذ إن السماح له بذلك سيشكِّل موجة من إعادة التسليح، بل وانتشار الأسلحة النووية؛ إذ إن عددًا من الحكومات في المنطقة سينعكس الأمر عليها خوفًا من الصين، وشكًّا في الوثوق بأميركا".

وهكذا حدث، مؤخَّرًا، مع عدد من الدول الأوروبية، كألمانيا، مثلًا، إذ إنّ التغيير الملحوظ في مواقف الدول الأوروبية، ولا سيما الزيادة في الميزانية العسكرية الألمانية، والتي "لم يكن من الممكن تصوُّرها قبل شهر" واختيار دولة محايدة مثل سويسرا التعاون في إطار عقوبات الاتحاد الأوروبي على روسيا هو نتيجة زيادة القناعة بأهمية الأداة الحربية في تحقيق الأمن القومي.

ومع الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتمدت، في ختام جلستها الطارئة، التي جاءت عقب فشل مجلس الأمن في إدانة الغزو الروسي، قرارًا يشجب "بأشدِّ العبارات" العدوان الروسي على أوكرانيا، ويطالب روسيا بالكفِّ، فورا، عن استخدامها للقوَّة ضدَّ أوكرانيا والامتناع عن أيِّ تهديد، أو استخدام غير قانوني للقوة ضدَّ أيِّ دولة عضو، إلا أن قرارها هذا لا يعدو أنْ يكون توصية، وهو وإنْ كان يُسهم في عزْل روسيا دوليًّا، إلا أنه لا يضع أيّ تدابير فعلية لتحقيق السِّلْم، ومنْع تداعيات هذه الحرب الروسية على الأمن والسِّلْم الدوليين.

وهكذا ينحدر العالم إلى المصالح العارية، وإلى منطق القوة الصريح، ولا مانع من الاستمرار في مساجلات الأحقيَّة، والإنسانية، فيما تخطّ الصواريخ والدماء حدودَ النفوذ، وتفرض معادلات الأمن ومصائر الشعوب.