إيران: فلسطينُ ليست حربَنا

2023.11.17 | 06:13 دمشق

إيران: فلسطينُ ليست حربَنا
+A
حجم الخط
-A

كشفت "عملية طوفان الأقصى"، 7 أكتوبر/ تشرين الأول، الفائت، وحربُ الإبادة التي أعقبتها على قطاع غزة حجمَ الاستعداد الإيراني لتحمّل كُلَف المواجهة مع دولة الاحتلال، ومستوى التصعيد الذي ترتضيه طهران.

وبالمقارنة بين حماس، من جهة، وإيران وحزب الله، من جهة أخرى، يظهر أن قادة حماس في فلسطين لم يستسيغوا أن يبلغ التهديد على مستقبل فلسطين والقدس والمسجد الأقصى ذاك الحدّ البالغ الخطورة، حين كانت دولة الاحتلال على وشك الإجهاز على المسجد الأقصى، وفرض السيادة عليه، وعلى وشك الدخول في منعطف يُنهي أيّ آفاق لوجود فلسطيني حرّ، في الضفة الغربية؛ فقررت تنفيذ تلك العملية الفائقة النوعية؛ مع علمها بالنتائج على (مكتسباتها) السُّلْطوية في قطاع غزة، ومجمل وجودها، ومصيرها في فلسطين، وخارجها، قَبِلَتْ تعريض نفسها لحربِ وجود، جِدِّية، وقبلت أن يُستهدَف رأسُها، لا من إسرائيل المطعونة في كرامتها، وفي هيبة جيشها، وفي معنى وجودها، بل إن حركة حماس قبلت أيضًا أن تقف في مواجهة واسعة ومصيرية مع المعسكر الغربي الرسمي، من أميركا إلى الدول الغربية الأخرى.

هذه اللحظة كشفت، مساحات المساومة والاستثمار، عند حماس، مقابل المنطقة المبدئية، والصُّدقية، فقررت المغامرة على مصيرها، وربما كانت تعلم أن إيران وحليفها، حزب الله، لن يمضيا معها إلى هذا المستوى، برغم أن إيران تستفيد من أيّ حرب تُضعِف إسرائيل، أو تصرفها عن ملاحقة إيران، في مشروعها النووي، أو للحدِّ من توسُّعها في المنطقة العربية.

لم ترتدع قيادة حماس، فخاضت هذه الحرب، وارتدعت إيران، وحزب الله، فأبقيا المواجهة مع إسرائيل عند حدود المناوشات (المقبولة) إسرائيليًّا، بالطبع، مع إمكانية أن تضطر الأخيرة إلى توسيع الحرب، في معرِض الرد على هجمات حزب الله، مع أن قادتها لا ينفكُّون يكرِّرون حرصهم على تجنُّب تلك الحرب، وهو الهدف الذي تشاركه إيران وحزب الله.

ما تزال إيران وحزب الله على رأيهما أنه لا سببَ موجبًا للدخول في تلك الحرب، وذلك عبّرت عنه قيادات إيرانية رسمية؛ أنّ هذه الحرب ليست حربَنا، وأننا لن نحارب بالنيابة عن حماس

حتى هذا اليوم، وبعد ما يزيد على أربعين يومًا على العدوان الإسرائيلي البالغ الهمجية، والمحطِّم لكلّ القواعد والأعراف المرعية في مثل هذه السياقات، ما تزال إيران وحزب الله على رأيهما أنه لا سببَ موجبًا للدخول في تلك الحرب، وذلك عبّرت عنه قيادات إيرانية رسمية؛ أنّ هذه الحرب ليست حربَنا، وأننا لن نحارب بالنيابة عن حماس، كما ظهر ذلك، صريحًا في أقوال سفير طهران السابق في الأردن ولبنان، أحمد دستمالجيان، في معرض تأييده الموقف الإيراني الرافض دخول إيران الحرب؛ بـ"أن دعم الجمهورية الإسلامية للقضية الفلسطينية لا يعني خوض معركة تحرير الأقصى المبارك، بالنيابة عن أهل الأرض المباركة". ثم أوضح عقيدة بلاده العسكرية بأنها "دفاعية وردعية تتبنَّى عنصر الضربة الثانية"، إذا تعرَّضت سيادة البلاد إلى تهديد، ومن ثم فإنها لا تسمح بخوض المعارك، قبل الاعتداء على الأراضي الإيرانية".

هذا، لا بدّ، يأخذنا، سريعًا، إلى حربها في سوريا؛ كيف أنها قبِلتْ أن تقاتل بالنيابة عن بشار الأسد، بل كيف أنها استحوذت على القرار الفعلي، في أكثر من مرحلة من مراحل الصراع في سوريا، والسؤال: لماذا؟

القضية، بالطبع، ليست مبدئية، في رفْض النيابة عن طرف، لو أنه معدود في محور الممانعة والمقاومة، لأنها قبلت أن تلغي، تقريبًا، النظام الحاكم في دمشق، في حمأة انخراطها في محاربة الإرادة الشعبية السورية لتغييره، وإنما يكمن السبب، ظاهريًّا، في الثمن المطلوب دفعه، ففي سوريا، استطاعت الإمعان في القتل والتدمير، وهي تعلم، أنْ لا ثمنَ حقيقيًّا يترتَّب عليها، بل إن الولايات المتحدة مضت في اتفاقات مع إيران، بعد كل الذي فعلته في سوريا والمنطقة، ولولا بعض المحاذير الداخلية لإدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، لمضت الانفراجة في العلاقات الأميركية الإيرانية إلى نقطة أبعد.

أما في موضوع فلسطين فالثمن المتوقَّع أكبر وأخطر، فلذلك، بدَتْ قائدة الممانعة والمقاومة، والحاملة لشعار القدس، في منتهى العقلانية، وهي ترى استئساد دولة الاحتلال، وغطرستها، وحتى تحذير مسؤوليها وتبجُّحهم بقدرتهم على ضرب أي بلد في المنطقة؛ ما يذكِّر إيران وغيرها بالخطر الذي يصبح أكثر احتمالًا، فيما لو حققت إسرائيل إنجازات مهمة في غزة، يمكّنها من شغْل دائرة نفوذ وتأثير أكبر في الإقليم؛ من شأنه التضييق على النفوذ الإيراني فيه.

إيران، ببساطة، استقوت على السوريين، واستعرضت قوتها على ثورة لم تكن في السياق الأميركي، حين لم تقدّر واشنطن، مع تعاقُب عددٍ من الإدارات؛ من باراك أوباما، إلى دونالد ترامب، وحتى جو بايدن، أنَّ تغيير نظام الأسد مصلحة أميركية، أو على الأقل، أمرٌ ملحّ، ونهائي، ولكن أميركا، على اختلاف رؤسائها من الجمهوريين إلى الديمقراطيين يرون وجود إسرائيل، وحمايتها، مصلحة استراتيجية غير قابلة للمساومة، أو التنازع حولها، وهذا ما عبَّرت عنه ردّةُ الفعل الأميركية، بالأقوال والأفعال والحشد العسكري، حتى بدا المشهد، وكأن أميركا تتولَّى بنفسها قيادةَ الحرب، فهي حربُها. وهنا وقفتْ إيران على مقادير الخطورة.

إيران لا ترى فلسطين، (حتى لو بلغت مخاطر استهدافها؛ بمقدّساتها ومقدّراتها مرحلة مصيرية) مصلحةً تستدعي الاستنفار الكلي، الحاسم

ويحجّم إيران اعتبار آخر قريب من السبب السابق؛ أنَّ النطاق الذي ترى فيه نفسها هو النطاق الإقليمي بالتنافُس مع قوى إقليمية، كتركيا، أو عربية، كالسعودية، ومصر.

فهنا مرحلة مهمة، في التصوُّرات عن دور إيران وأولوياتها الحقيقية، يُظهِر أن إيران لا ترى فلسطين، (حتى لو بلغت مخاطر استهدافها؛ بمقدّساتها ومقدّراتها مرحلة مصيرية) مصلحةً تستدعي الاستنفار الكلي، الحاسم، حجتها في ذلك أنها لن تحارب بالنيابة عن أهل فلسطين، أو قوى المقاومة فيها، مع علمها بأن المعركة بين الطرفين غير متكافئة؛ وهي بشكل واضح لصالح دولة الاحتلال، إن لم يكن بالانتصارات العسكرية فبكافّة أساليب التفوُّق الميداني، بالتضييق، الاقتصادي، والمعيشي، من خلال التحكُّم بالمعابر ومجمل الحياة الفلسطينية، اليومية، والمستقبلية، كما يتجلى في الاستيطان الذي لا تقوى حتى الآن قوى المقاومة على وقفه، أو تهويد القدس، مثلًا، وغير ذلك. 

ثم إن المسألة ليست الحرب بالنيابة عن أهل فلسطين، أو حماس، وإنما بالمشاركة والانضمام إلى هذا المجهود الحربي، في هذا الوقت والظرف والعصيب، حيث يستفرد الاحتلال، بكل همجيته بأهل غزة، وحتى الضفة الغربية، مُوقِعًا المجزرة تلو المجزرة، على مرأى من العالم الإسلامي والعربي، والعالم أجمع؛ ما يرفع فاتورة الدم، في صفوف المدنيِّين، بوصفهم، وَفْقَ الاحتلال، الحاضنةَ الشعبية التي تحمي، وتُنْجِب هذه الظاهرة القتالية، المتمثلة في حماس وفصائل المقاومة الأخرى، هذا فضلًا عن تدمير كل المراكز الطبية، والروحية، من مساجد وكنائس، والتعليمية، من مدارس وجامعات؛ ما يعني استهداف الكيان الاجتماعي الفلسطيني كلّه؛ سعيًا إلى تهجير الفلسطينيين، وفق المخططات الإسرائيلية المُبَيَّتة.

هذا الأمر، وهو استنصار القوى الإسلامية والعربية، واستنفارها، كرَّرت الدعوة إليه قياداتُ حماس، وعلى رأسهم القائد العسكري، محمد الضيف، مع بدء "عملية طوفان الأقصى"، على اعتبار أنها ليست معركة حماس وحدها، وكذلك الناطق العسكري الرسمي لكتائب القسام، أبو عبيدة، بوصْف ذلك واجبًا، تُمليه معاني الانتماء.

فهل، بعد اليوم، تكفُّ إيران عن مبالغاتها الاستثمارية في شأن فلسطين والقدس، وتقول إنها مجرد دولة إقليمية طامحة، تحترم التواضُعات الدولية، ولا سيما المتعلقة بإسرائيل، والدور المخوّل لها، غربيًّا؟