icon
التغطية الحية

فارس بك الخوري.. حين كانت سوريا لكل السوريين

2023.04.09 | 00:22 دمشق

الخوري
محمد أوزملّي
+A
حجم الخط
-A

"إذا كانت فرنسا تدّعي أنها احتلت سوريا لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي أطلب الحماية من شعبي السوري، وكمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله".

بعد هذه الكلمات التي ألقاها فارس الخوري من على منبر الجامع الأموي بدمشق، أقبل عليه المصلون وحملوه على الأكتاف، في مظاهرةٍ طافت أحياء العاصمة السورية، وشارك فيها المسيحيون وهم يهتفون: "لا إله إلا الله".

النشأة والتعليم

ولد فارس الخوري في أسرة مسيحية بروتستانتية عام 1873، بقرية "الكفير" التابعة لقضاء حاصبيا اللبنانية اليوم، والتي كانت تابعةً لدمشق إبان الدولة العثمانية، وتلقى أول علومه الابتدائية في قريته ثم انتقل إلى صيدا ليتابع دراسته الثانوية في المدرسة الأميركية، ليعيّن بعدها معلمًا في زحلة ثم في مجدل شمس وصيدا عام 1892.

وفي عام 1894م انتسب إلى الكلية الإنجيلية السورية في بيروت، وحصل فيها على البكالوريوس في العلوم عام 1897م. دُعي بعدها لإدارة المدارس الأرثوذكسية في دمشق، ولإعطاء بعض الدروس في مكتب عنبر. كما أنه درس اللغتين الفرنسية والتركية والحقوق بدون معلم ما بين عامي (1902- 1908)، وامتهن المحاماة بدمشق، حيث تقدم إلى فحص معادلة الليسانس بالحقوق فنالها.

عملهً السياسي

شغلت السياسة حياة فارس الخوري من شبابه إلى كهولته وشيخوخته، فدام نشاطه السياسي قرابة أربعين عاماً. انتُخب نقيبًا للمحامين عام 1921م، ونائبًا في البرلمان خمس مرات خلال الفترة التي عرفت فيها سوريا "الحياة النيابية". ولولا التضييق عليه وإغلاق السلطة المنتدبة الباب في وجه نيابته، لبقي فيها كما يريد، حيث شغل منصب رئاسة المجلس النيابي أربع مرات.

إضافة إلى ذلك، شغل الخوري منصب الوزير لثلاث مرات: وزارة المالية في وزارة علي ضا الركابي عام 1918م، ثم تقلَّدها في وزارة هاشم الأتاسي حتى 1921، وتقلَّد وزارة المعارف في وزارة أحمد نامي بك عام 1926. وكُلّف في تشكيل الوزارة وعين رئيس وزراء سوريا عام 1944.

وفي ذلك العام (1944) عُيّن الخوري وزيراً للأوقاف، وعندما اعترضت شخصيات على رئاسته الأوقاف الإسلامية وهو مسيحي، خرج وقتها نائب الكتلة الإسلامية في المجلس عبد الحميد طباع ليتصدى للمعترضين قائلاً: "إننا نُؤمّن فارس بك الخوري (المسيحي) على أوقافنا أكثر مما نُؤّمن أنفسنا".

فارس الخوري في المحافل الدولية

مثَّل الخوري سوريا في الكثير من المحافل الدولية، وكان معروفًا بين ممثلي الدول برجاحة عقله وسعة علمه وثقافته، وحظي بثناء رؤساء الوفود منذ أول خطبة ألقاها في مطلع أيار 1945 بمؤتمر سان فرانسيسكو أمام ممثلي 51 دولة، حيث تحدث فيها عن إمكانية تحقيق الفكرة السامية التي تهدف إليها منظمة الأمم المتحدة الوليدة حديثاً في ذلك العام. واقترح بأن تقوم محكمة العدل الدولية بمهمة حل المشكلات الناجمة وأن تعمل بالتعاون مع المنظمة العالمية وهيئاتها. وأعلن في نهاية خطابه نبأ تشكيل جامعة الدول العربية التي اتفقت ولادتها مع ولادة هذه المنظمة العالمية، والتي ستساعد في إقرار العدل والسلم.

كان لخطابه حينذاك أحسن الأثر في نفوس السامعين من مختلف الدول، كما ذاع صيته في المحافل السياسية، وعليها دعته جامعة جنوب كاليفورنيا ومنحته دكتوراه الشرف في الشؤون الخارجية (29 حزيران 1945).

وما كانت خطبة الخوري في ذلك اللقاء سوى البداية لما سوف يُفجر به الرأي العام في المحافل التي سيكون فيها ممثلاً ومدافعاً عن الدول العربية عامة وسوريا ولبنان بصورة خاصة، حيث كان في معظم خطبه في المحافل التي حضرها رئيساً لوفده يطالب بحرية بلاده من الاحتلال الإنكليزي والفرنسي، ويستمد دفاعه من عدالة القضية ومن علمه الغزير بحقوق الشعوب، وذكائه ولباقته وبديهته.

الخوري واستقلال سوريا

"سعادة السفير، جلست على مقعدك 25 دقيقةً، فكدت تقتلني غضبًا وحنقًا، وقد احتملت سوريا سفالة جنودكم 25 سنةً، وقد آن لها أن تستقل".

بهذه الكلمات والتصرف البطولي الذي رافقها لفارس الخوري في الأمم المتحدة عام 1946 نالت سوريا استقلالها من الانتداب الفرنسي، حيث دخل الخوري بطربوشه الأحمر وبدلته البيضاء قبل بدء موعد الاجتماع متوجهًا بسرعة إلى مقعد المندوب الفرنسي وجلس على الكرسي المخصص لفرنسا.

عندما دخل المندوب الفرنسي ووجد الخوري يحتل مقعد فرنسا توجه إليه طالبًا منه المغادرة كون المقعد مخصصًا لفرنسا مشيرًا بإصبعه إلى علم فرنسا الموجود أمامه، ومشيرًا إلى مقعد سوريا الفارغ. إلا أن الخوري لم يتحرك ولم يبد اكتراثًا، بل أخرج ساعته ووضعها أمامه وبدأ ينظر إليها ويعد الدقائق بصوت عال وسط الجميع، والمندوب الفرنسي يحاول تمالك أعصابه وهو يطالبه بترك مقعده إلى أن فقد أعصابه وبدأ بالصراخ في وجهه مطالبًا بترك مقعد فرنسا وسط ذهول جميع المندوبين ومراقبتهم، والخوري مستمرٌ بعدم الاكتراث والتحديق في ساعته، مرددًا بصوت عالٍ: "19 دقيقة، عشرون"، فهاج المندوب وحاول التهجم عليه، فحال بينه وبين مراده سفراء الدول ناظرين باستغراب إلى الخوري.

وفي تمام الدقيقة الـ25 وضع الخوري ساعته في جيبه ووقف مخاطبًا المندوب الفرنسي بتلك الكلمات بصوتٍ يسمعه كل من في القاعة، مطالباً باستقلال بلده سوريا ونالها.

وبعد نيل الاستقلال أصبح الخوري ممثلًا لسوريا في مجلس الأمن، وكان في الـ74 من عمره، فظل يقوم بأعباء هذه المهمة طوال عامي 1947 و 1948، كما تولى رئاسة مجلس الأمن مرتين.

كانت تلك الفترة من الفترات الحاسمة في تاريخ الشرق العربي، حيث عرض الخوري على المجلس في جملة قضايا الأمن الدولي ومشكلات الدول ومنازعتها، قضية جلاء الإنكليز عن مصر وقضية تقسيم فلسطين، وكان يتكلم فيها جميعها. ولم يقتصر دفاعه على البلاد العربية وحدها بل تناول جميع القضايا التي لها علاقة بالسلم، وشمل دفاعه جميع الشعوب التي كانت على حق في مطالبها.

في عام 1960، وبعد نضال قضاه عميد السياسة السورية وفارسها -كما كان يوصف في تلك الحقبة- أصيب الخوري بكسرٍ في عنق الفخذ وهو في غرفة نومه، فلزم الفراش حتى وافاه الأجل في الثاني من كانون الثاني عام 1962.