عون وحزب الله ونظرية تحالف الأقليات

2021.12.30 | 05:03 دمشق

52397image1-1180x677_d.jpg
+A
حجم الخط
-A

في تاريخ لبنان الحديث ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، عادة ما أدى الخلل في ميزان القوى الطائفي إلى أزمة أو حرب في أسوأ الأحوال. كانت الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد عام 1975 نتيجة لعقود من هيمنة المارونية السياسية على البلاد. بعد اتفاق الطائف الذي أنهى هذه الحرب، سادت حالة من التوازن الطائفي قائمة على العرف الطائفي في توزيع السلطات على الطوائف الرئيسية. تقلصت صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني مقابل تعزيز صلاحيات كل من رئيس الوزراء السني ورئيس البرلمان الشيعي. لعبت الوصاية السورية على لبنان بعد الحرب الأهلية دوراً بارزاً في إعادة الخلل السياسي الطائفي. فمن جانب، ساهم نفي ميشيل عون إلى باريس بعد إخراجه بالقوة في عملية عسكرية سورية من قصر بعبدا عام 1989 وإدخال سمير جعجع إلى السجن في جعل الموارنة مهمشين في الوضع الجديد الذي نشأ بعد الحرب. كما أدى صعود الشيعية السياسية برعاية الوصاية السورية إلى تعميق هذا الخلل الذي برز بشكل أكبر مع اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في 2005.

 بعد انتهاء عهد الوصاية بانسحاب الجيش السوري من لبنان عقب اغتيال الحريري وعودة عون من المنفى وخروج جعجع من السجن، أُعيد تشكيل الحالة اللبنانية من جديد. في عام 2006 أبرم عون وحزب الله تفاهم مار مخايل. كان هذا التحالف قائماً بصورة رئيسية على منح عون غطاءً مارونياً لسلاح حزب الله ودوره الداخلي مقابل إيصال التيار العوني إلى السلطة. لم يُساهم هذا التحالف في إحباط التحولات اللبنانية التي برزت بعد انتفاضة 14 آذار 2005، بل دشن عهد الثنائية المارونية ـ الشيعية التي تمكنت من فرض مشروعها على اللبنانيين ومنحت بُعداً آخر للخلل الطائفي بعد الإطاحة بحكومة فؤاد السنيورة في 2007 ثم حكومة سعد الحريري في 2011.

بعد اندلاع الثورة السورية وانخراط حزب الله عسكرياً في الحرب إلى جانب نظام الأسد، تطوّر مفهوم التحالف الثنائي الماروني الشيعي إلى تحالف أقليات تجاوز الجغرافيا اللبنانية. لم يتردد عون في منح تغطية مسيحية لدور حزب الله في سوريا وتسويقه بين مسيحيي لبنان على أنه حماية لهم وللمسيحيين في سوريا من الصعود السني. هذا التحالف بين عون وحزب الله والنظام السوري بدا متناقضاً مع السياقات التاريخية بالنّظر إلى الدور الذي لعبته الوصاية السورية على لبنان في تهميش زعماء الموارنة الرئيسيين.

على مدى السنوات العشر من عمر الحرب السورية، لم يتبن عون موقفاً داعماً لانخراط حزب الله في الصراع فحسب، بل شمل دعماً سياسياً للنظام السوري تحت ذريعة محاربة الإرهاب. كما اتخذ عون موقفاً مختلفاً عن غالبية الدول العربية من خلال الدعوة إلى عودة العلاقات اللبنانية السورية وإعادة عضوية سوريا إلى الجامعة العربية. رغم التداعيات الكبيرة لانخراط حزب الله في الصراع السوري على لبنان من خلال بروز استقطاب طائفي حاد إزاء هذه المسألة وظهور قضية اللاجئين السوريين، إلاّ أن عون تعامل معها من منطلق زعيم تيار طائفي يسعى لتعزيز دوره في هذا الاستقطاب بدلاً من تحمل مسؤوليته كرجل دولة يعمل على تحييد لبنان في هذا الصراع. علاوة على ذلك، تبنى تيار عون خطاباً عنصرياً وطائفياً مُحرّضاً على اللجوء السوري واعتبره تهديداً للتركيبة الطائفية اللبنانية، لكنّه تجاهل عاملاً رئيسياً مُسبباً لهذا اللجوء وهو انخراط حليفه الشيعي في الحرب. كانت دوافع عون في تغطية دور حزب الله في سوريا تنبع من حسابات طائفية بحتة تقوم على مفهوم تحالف الأقليات. في وثيقة مسربة صادرة عن السفارة الأميركية بعد عامين من التحالف بين التيار العوني وحزب الله سربها موقع ويكيليكس، نُقل عن عون قوله إن التحالف الماروني الشيعي هو الوسيلة لمواجهة التهديد السني.

يُحاول عون اليوم التنصّل من مسؤوليته الأساسية في تأزيم علاقات لبنان مع محيطه العربي، لكنّه في الواقع يُعمّق من أزمته. فلا هو قادر على مواصلة الشراكة مع حزب الله وتحمل تبعاتها عليه، ولا هو قادر على إنهاء الشراكة

لم يكن دعم عون لتورط حزب الله في الحرب السورية مُكلفاً عليه بالنّظر إلى أن الدور الإقليمي للحزب بعد 2011 ظل محصوراً في سوريا خلال السنوات الأربع الأولى من الصراع. لكنّ بعد 2015 واندلاع الحرب في اليمن، تنامى دور حزب الله الإقليمي ليشمل انخراطاً إلى جانب الحوثيين في حربهم مع التحالف العربي الذي قادته السعودية بعد إطلاق عاصفة الحزم. لم يُبدِ عون اعتراضاً علنياً على موقف حزب الله من الحرب اليمنية، لكنّ عدم الاعتراض كان بمنزلة تغطية أخرى لمغامرة إقليمية جديدة لحليفه. في الأزمة الأخيرة التي اندلعت بين دول الخليج ولبنان على خلفية دور حزب الله في اليمن، بدأت تبرز التداعيات المُكلفة لتحالف عون ـ حزب الله على لبنان. فقد جلب هذا التحالف قطيعة للبنان من قبل دول خليجية لطالما دعمت في السابق الاقتصاد اللبناني، حيث فاقمت هذه القطيعة من أزمة الانهيار الاقتصادي التي شهدتها البلاد بعد 2019، كما تسبب تحالف عون ـ حزب الله في تزايد النقمة على التيار العوني في الشارع المسيحي بما يُهدد خسارته في الانتخابات البرلمانية المقررة في الربيع المقبل.

هذه التداعيات دفعت عون مؤخراً إلى الانتقاد علانية وبشكل نادر لدور حزب الله الإقليمي. ففي خطابه الأخير، تساءل عون مستنكراً عن المبرر لتوتير العلاقات مع الدول العربية ودول الخليج تحديداً والتدخل في شؤون لا تعني اللبنانيين. بعد 15 عاماً من إبرام التحالف مع حزب الله و10 أعوام من انخراط حزب الله في الصراعات الإقليمية وقبيل عام واحد من انتهاء ولايته الرئاسية، يتظاهر عون بالشجاعة محاولاً إظهار أنّه يرسم حدوداً لدور حزب الله الخارجي. تبدو هذه الشجاعة مشكوكاً في مصداقيتها ودوافعها. فرغم أن انخراط حزب الله في الحرب السورية وضع لبنان في أزمة مع غالبية الدول العربية، إلاّ أن عون لم يجد ما يدعو لانتقاد حزب الله. كما أن انخراط الحزب في حربي اليمن وسوريا ما كان ليحصل من دون الغطاء المسيحي الداخلي.

يُحاول عون اليوم التنصّل من مسؤوليته الأساسية في تأزيم علاقات لبنان مع محيطه العربي، لكنّه في الواقع يُعمّق من أزمته. فلا هو قادر على مواصلة الشراكة مع حزب الله وتحمل تبعاتها عليه، ولا هو قادر على إنهاء الشراكة لأنّ من شأن ذلك أن يزيد من ضعفه السياسي ويقضي على مشروع إيصال صهره جبران باسيل إلى الرئاسة في المستقبل. كان الخطأ الكارثي الذي ارتكبه الجنرال عون منذ عودته من منفاه الباريسي هو بناء شراكة مع حزب الله على قاعدة تحالف الأقليات. فهذه الشراكة لم تضع لبنان فحسب في مأزق داخلي وقلب صراع إقليمي أكبر من أن يتحمل اللبنانيون تكاليفه الباهظة، بل وضعت البلد في عزلة عربية وحوّلته إلى جزيرة معزولة ينهشها الفقر ويُديرها مشروع طائفي عابر للحدود. رغم مآسيهم الكبيرة، كان اليمنيون محظوظين بوجود دول خليجية مستعدة الآن لمعاقبة حزب الله على تورطهم في الحرب ضدّهم، لكنّ السوريين الذين كانوا من أكثر شعوب المنطقة معاناة مع دور الحزب وإيران خلال العقد الماضي، لم يجدوا من يقف إلى جانبهم في تحميل حزب الله وعون تكاليف لعبتهم في سوريا. وبين سوريا واليمن، يقف عون المأزوم متناقضاً في مواقفه تجاه دور حزب الله وعاجزاً عن الخروج من ورطة تحالف الأقليات التي يدفع ثمنها مسيحيو وشيعة لبنان والمنطقة قبل طوائفها الأخرى.