عن حربنا السورية والحرب الأرجنتينية القذرة

2023.08.03 | 06:47 دمشق

عن حربنا السورية والحرب الأرجنتينية القذرة
+A
حجم الخط
-A

"إنها أكبر عملية نقل من حكومة إلى أخرى لوثائق رُفعت عنها السرّية". نعم لقد كانت كذلك. ضمن ما سيوصف لاحقاً بديبلوماسية رفع السرية. سلّمت إدارة الرئيس الأميركي ترامب يوم الرابع والعشرين من آذار/مارس 2019، سبعة وأربعين ألف صفحة من الوثائق التابعة للمخابرات المركزية (CIA) والشرطة الفيدرالية الأميركية (FBI) وغيرها من الوكالات، بشأن انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتُكبت خلال حكم الديكتاتورية العسكرية بين عامي 1976-1983 في الأرجنتين. سيتداول الإعلام الخبر ويصف تلك الوثائق بأنها "سجلّ قمع لا يرحم" بما يخص "الحرب الأرجنتينية القذرة" التي شنتها الديكتاتورية العسكرية بعد الإطاحة بالرئيسة المنتخبة إيزابيل بيرون.

في أواخر أيار/مايو 1976، اجتمع زعماء الشرطة السرية لستة أنظمة عسكرية لما يعرف بدول المخروط الجنوبي لأميركا اللاتينية (تشيلي، الأرجنتين، أوروغواي، باراغواي، بوليفيا البرازيل) في قمة سرية في سانتياغو عاصمة تشيلي. كان الهدف إنشاء وحدة جديدة لمكافحة المعارضة، سيُطلق عليها الاسم الرمزي" ثيسيو"، في إشارة إلى الملك الأثيني، قاتل الوحش مينوتور، بحسب الأساطير الإغريقية. وسيطلق على العملية التي استمرت ست سنوات اسم "كوندور". من بين أعداء آخرين. كانت مهمة "كوندور" تنفيذ هجمات ضد المتشددين اليساريين في المنطقة وفي أوروبا أيضاً، بحسب ما ورد في إحدى الوثائق المُسلَّمة. سوف تتسلم الولايات المتحدة نسخة من الاتفاق الموقع بعد إبرامه مباشرةً.

في آذار/مارس عام 2016، من العاصمة الأرجنتينية بوينس آيريس سيعلن الرئيس الأميركي أوباما "أعتقد أننا نتحمل مسؤولية مواجهة الماضي بصدق وشفافية"، مشيداً بعشرات الآلاف من ضحايا حقوق الإنسان في "الحرب القذرة في الأرجنتين"، متعهداً بالإفراج عن ملفات المخابرات الأميركية حول الفظائع التي ارتكبت خلال الديكتاتورية العسكرية.

قبل مغادرة أوباما لمنصبه، أصدرت إدارته أول شريحتين من سجلات الأرجنتين، مأخوذة من وثائق مسجلة في المكتبات الرئاسية. في نيسان/أبريل 2017 ، سيسلم الرئيس ترامب شخصياً قرصاً يحتوي على شريحة ثالثة من السجلات إلى الرئيس الأرجنتيني. ثم بعد مرور ثلاث سنوات على التفويض المبدئي من أوباما، تم الإفراج عن أكثر الوثائق الاستخبارية حساسية في 2019، إيذانا باستكمال مشروع رفع السرية عن وثائق الأرجنتين.

في ملاحظاته الختامية في حفل التسليم النهائي، أشاد كارلوس أوسوريو مستشار مشروع رفع السرية عن الوثائق، بالحكومة الأميركية لمتابعة ما سمّاه "إحدى أكثر عمليات رفع السرية شمولاً لسجلات الاستخبارات الحساسة في التاريخ الحديث.. إن إصدار هذه الوثائق يمثل مساهمة قيّمة بشكل فريد في قضية حقوق الإنسان، وقضية العدالة وقضية حقنا الأساسي في المعرفة". هل ذكر الرجل الحق الأساسي في المعرفة؟ أجل. سآتي لاحقاً على هذا الحق العام، وقبله والأهم حق عائلات الضحايا في معرفة مصير مفقوديهم.

تشير إحدى الوثائق إلى إرسال فرق اغتيال إلى الدول الأوروبية لقتل قادة المجلس العسكري للتنسيق الثوري (JCR)، وهي منظمة جامعة للحركات اليسارية ومقرها باريس ولشبونة ومدن أوروبية أخرى

تم إنشاء السجلات في الغالب من قبل مجتمع الاستخبارات، ولذا بدت للمطلعين أقل تنقيحاً، من عمليات رفع السرية السابقة. فهي تحدد أسماء الجناة، مع التفاصيل المروعة عن الفظائع، وتوضح مصير كثيرٍ من الضحايا المخفيين بلا أيّ أثر. والأهمّ (سياسياً وأخلاقياً) تتيح السجلات كيف ومتى علمت وكالاتُ الأمن القومي وصانعو السياسات الأميركيون بالانتهاكات، والإجراءات التي اتخذوها، أو فشلوا في اتخاذها، رداً على معلومات استخبارية مفصلة حول القمع المعمم والممنهج الذي سار عليه النظام العسكري الأرجنتيني.

على أعلى مستويات وكالة المخابرات المركزية الأميركية، كانت الوكالة تعرف تماماً خطط عمليات القتل والإخفاء. تشير إحدى الوثائق إلى إرسال فرق اغتيال إلى الدول الأوروبية لقتل قادة المجلس العسكري للتنسيق الثوري (JCR)، وهي منظمة جامعة للحركات اليسارية ومقرها باريس ولشبونة ومدن أوروبية أخرى. واحدة من الرسائل التي رفعت عنها السريّة بدت طريفة للغاية رغم مأساوية الحدث.

توجه رئيس قسم أميركا اللاتينية ريموند وارين برسالة إلى نائب مدير الوكالة المركزية للمخابرات الأميركية جاء فيها "يجب اتخاذ كل الاحتياطات اللازمة لضمان عدم اتهام الوكالة (خطأً) بكونها طرفاً في هذا النوع من النشاط". لم يكن مهماً للرجل الجرائم التي تحدث، لكن المهم من وجهة نظره ألا تتضرر سمعة المخابرات الأميركية! الأدهى من كل ذلك، أن إحدى الوثائق تكشف عن زيارة قام بها ممثلو استخبارات ألمانيا الغربية وفرنسا وبريطانيا إلى الأرجنتين في أيلول/سبتمبر عام 1977 للاجتماع مع المخابرات الأرجنتينية، ومناقشة طرق إنشاء منظمة أوروبية مشابهة من أجل مناهضة التخريب في أوروبا، تكون على غرار "كوندور"، وتستفيد من تجربتها.

وثقت اللجنة الوطنية للمختفين الأرجنتينية (CONADEP) 9089 حالة لأشخاص اختفوا على يد النظام. البحث اللاحق باستخدام تقارير من كتيبة الشرطة السرية، رفعَ إجمالي القتلى والمختفين إلى نحو 22000. بينما تقدّر منظمات حقوق الإنسان أن هذا العدد يقترب من 30 ألفاً. أعرف الآن عن ماذا تتساءلون. ولكم كلّ الحق. هل يمكن لكاتب سوري أن يذهب للبحث والتدقيق في فظائع حدثت قبل أكثر من أربعين عاماً في مغارب الأرض، وذهب ضحيتها 30 ألفاً بحسب أعلى التقديرات، بينما تحت ناظريه وأمامه مباشرة، فظائع ما زالت تُرتكب حتى اليوم في بلاده ويُقدّر ضحاياها بمئات الآلاف!

كم من الوثائق لدى وكالات الأمن الأميركية ووزارتي الخارجية والدفاع وفي المكتبات الرئاسية، عما حدث وما زال يحدث في سوريا؟ عن الضحايا والمرتكبين؟ الذين تبيَّن أنهم يعرفونهم بالأسماء في الحالة الأرجنتينية

أولاً لنتفق أن رقم ثلاثين ألف ضحية هو رقم مرعب بكل المقاييس، حتى بعد أن كسر حكم الأسد كل الأرقام القياسية. ولا يقلل تواضع الرقم الأرجنتيني أمام أرقامنا السورية من تقصي الانتهاكات أينما حدثت ومهما بلغت، على الأقل لمحاولة معرفة تجارب تلك الشعوب في التعامل مع ما تعرضت له. لكن الحقيقة ما كان يهمني أكثر، وما دفعني للكتابة عن هذا الملف هو انخراط الولايات المتحدة، مخابراتياً على الأقل، في متابعة ومعرفة كل تفاصيل ما كان يحدث. أكثر ما لفتني، أن هناك وثيقة تفيد بمشاركة مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي معلومةً مع قوات الأمن الأرجنتينية، تفيد بدخول "جوين لوكن" عضو تحالف الشباب الاشتراكي إلى الأرجنتين، مما أدى إلى اعتقالها. كانت لوكن إضافة إلى جنسيتها الأرجنتينية، تحمل الجنسية الأميركية.

يتم تداول التعاون الأميركي الحالي مع الحكومة والمحاكم الأرجنتينية، عبر رفع السريّة عن الوثائق، باعتباره مأثرةً عظيمةً لدعم قضايا حقوق الإنسان ومناهضة الإبادة الجماعية على نحو خاص. ولكن السؤال المؤرق في حالتنا، والذي لن نجد له جواباً، في المدى المنظور على الأقل. كم من الوثائق لدى وكالات الأمن الأميركية ووزارتي الخارجية والدفاع وفي المكتبات الرئاسية، عما حدث وما زال يحدث في سوريا؟ عن الضحايا والمرتكبين؟ الذين تبيَّن أنهم يعرفونهم بالأسماء في الحالة الأرجنتينية. طبعاً ليس لديَّ أي جواب، وآمل مع كثير من السوريين أني سأعرف الإجابة في يومٍ ما. وأنا أتابع المعلومات، كان على الدوام يخطر لي السؤال المُربك، إذا كانت مجريات عملية "كوندور" وُصفت بالحرب الأرجنتينية القذرة وهي استمرت ست سنوات، فبأي مفردات يمكن وصف حرب الأسد على السوريين، وهي ما زالت مستمرة منذ أكثر من نصف قرن، وليس في الأفق ما يوحي بأنها ستتوقف قريباً؟!