عن السياسة والأدب والثقافة والكتاب

2019.11.28 | 15:16 دمشق

71.png
+A
حجم الخط
-A

 العلاقة بين عالميْ الأدب والسياسة وثيقة ومترابطة يحكمها تأثير متبادل يجعلها تنعكس إيجابياً على حياة الناس والمجتمع في حال تكاملها على قاعدة رؤية الأديب وحلمه، وإرادة السياسي المالك لأدوات التغيير وفعله، وسلبياً في حال اختلال أحد طرفي المعادلة..! فالأدب في مخاطبته ذهن الإنسان ومكونات روحه من مشاعر وعواطف وأحاسيس، وما يقدمه من صور سواء كانت متخيلة أم منتزعة من الواقع، فهو يعمل بهذا النحو أو ذاك، على هندسة وعي الإنسان العام تجاه مجتمعه والعالم، ويصوغ الأديب وعيه أفكاراً قابلة للتطبيق على أرض الواقع مستفيداً من عالم السياسة الرامية لجعل حياة الإنسان أكثر متعة، وأكثر انتصاراً لقيم الإنسان الدائمة، قيم الحق والخير والجمال، ويضع الأديب رؤيته أمام السياسي المالك لأدوات التغيير التي هي في النتيجة أدوات الدولة.. وما ينطبق على الأدب ينطبق على عموم الثقافة لكن ميزة الأدب أنه شمولي في بنائه لوعي الإنسان لا يجزّئ أفكاره بحسب هذا الجانب من نشاط الإنسان أو ذاك، وقد أطلق بعضهم على وظيفة الأدب عبارة "هندسة النفس البشرية" وهذا لا يعني أن السياسي لا يملك فكراً ما أو رؤية يريد تطبيقهما على الواقع ليكون أكثر قابلية للحياة المريحة الهادئة لا أبداً، ولكن الحياة في تبدل مستمر.. ومن هنا الدعوة لأن تبنى علاقة السياسة والأدب على أسس سليمة تأخذ شكلاً تكاملياً ينعكس إيجابياً على حياة الناس والمجتمع.. فما هذه العلاقة، وما حدودها، وكيف تتجلَّى في الواقع؟!

بداية يمكن القول إن السياسة والأدب ينتميان إلى العلوم الإنسانية التي تعنى بحياة الإنسان وبشؤونه كافة، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً وكلاهما يسعى بالوسائل التي يملكها للارتقاء بالإنسان، ويمكننا أن نصف الفن الأدبي، في محتواه الفكري بأنه السلطة التشريعية غير الملزمة.. إذ يهتم الأدب بجوهر الإنسان، وبواقعه، ويشير من خلال تصويره الواقع إلى ما يمكن فعله للارتقاء به والخلاص من أمراضه وأوجاعه، ولتكريس نمط جديد في الحياة يفسح في المجال لعيش كريم وتنمية لمواهب الإنسان وإبداعه.. وربما، وانطلاقاً من هذه الرؤية، تأتي أهمية الأدب في حياة المجتمع والناس إذ هو يعمل على تعميق فكرة الأنسنة في روح الإنسان، فيما يهتم السياسي بمفردات الحياة المادية للإنسان ويوفر، في حال حضوره النموذجي، أي في حال قيامه بدوره، المناخ المناسب لتكامل حياة المجتمع عبر جناحيها المادي والروحي، فلا فصل مطلقاً بين ما هو مادي وروحي، وكلاهما يمتح من الآخر..

 ولعلنا نحن العرب والمسلمين أكثر ما نحتاج إلى تصحيح هذه العلاقة بين الأدب والسياسة في واقعنا الحياتي، فالسياسي فيما نراه خشن بطبعه، وغالباً ما تكون روحه خاوية، وقلَّما تراه يلتفت إلى الأدب أو الفن عموماً، بل إنه ينظر إلى الفن والأدب نظرة استعلاء، ويريد توظيفهما لمباركة أعماله وإنجازاته وللتسبيح بحمده.. وقليل جداً من سياسيينا المعاصرين ممن يهتمون بشؤون الأدب.. لكن الأدباء الجادين يهتمون بالشأن السياسي، ويقدمون إنتاجهم على هذا الأساس من الوعي السياسي، ولو أن السياسيين استمعوا إليهم لكانت أوضاعنا العامة مختلفة، ويستطيع الواحد منا أن يشير إلى أدباء كثر من السوريين الذين رسموا للسياسي طرقاً لكنه أبى واستكبر، بل ظل على غيِّه فلم ينل غير الهجاء المر على ما ارتكبت يداه من أفعال ومن هؤلاء "عمر أبو ريشة" و"نزار قباني" و"محمد الماغوط" و"سعد الله ونوس" وغيرهم ممن أدانوا المرحلة التي عاشوا فيها، مرحلة حافظ الأسد ومنهم من هجاه بوضوح، ومنهم من رمَّز هجاءه.. وليس ماضينا بأفضل من حاضرنا فلطالما اغتال السياسيون أو أمروا بقتل الشعراء والكتّاب والفلاسفة والأمثلة كثيرة لا تحصى، بل إنَّ بعض من اغتيل هو اليوم رمز مقدس رغم تقادم الزمن على العصر الذي عاشه، وتجب الإشارة هنا إلى أنه في عصر البرجوازية الوطنية في خمسينيات القرن الماضي كان بعض شعرائنا وكتابنا سفراء لدولهم لدى العالم، بينما لا يطلب من السفير اليوم في السفير إلا أن يكون عنصراً في جهاز المخابرات، وهذا جزء من تردي أوضاعنا العامة..!

وإذا كانت علاقة الأديب أو الفنان بالسياسي علاقة إشكالية، وتناحرية على الدوام في عالمنا العربي والإسلامي.. فهي ليست كذلك في العالم المتحضر، وسآتي بأمثلة حدثت مع سياسيين كبار.

"كم هو شقي ذلِك الإنسان الذي ليس له مدينة ولا وطن"

كان لينين وهو الشيوعي معجباً بالشاعر "بوشكين" لعمق شعره الإنساني، أكثر من إعجابه بـ: "مايكوفسكي" الملقب بشاعر الثورة.. والمثال الآخر عن جون كيندي رئيس الولايات المتحدة في الستينيات الذي قضى اغتيالاً، فخلال حملته الانتخابية سأله أحد الصحفيين: هل أنت ضد الإعدام؟ فأجاب: نعم, أنا ضد الإعدام, فقال له الصحفي مستغرباً: ولكنك كنت، وأنت في وزارة العدل، مع قانون الإعدام, فأجاب: لم أكن وقتها قد قرأت كتابات ألبير كامو، و(كامو أديب فرنسي عاش حياته في الجزائر يتمتع بحس إنساني عالٍ.. من أشهر رواياته "الغريب" و"الإنسان المتمرد") ومن أقواله: "كم هو شقي ذلِك الإنسان الذي ليس له مدينة ولا وطن". فكم (يعبر هذا القول عن وضعنا اليوم نحن السوريين..!)

أما تيودور روزفلت رئيس الولايات المتحدة بين أعوام 1901 و1909 فقد كان يقرأ رواية "الغاب" للكاتب الأمريكي "أبتون سنكلير" التي كانت قد صدرت إبان فترة حكمه عام 1903 وتحدثت عن فظائع يرتكبها أصحاب معامل اللحوم في ولاية شيكاغو.. ويقال إنه خلال قراءته كان  كلَّما قرأ عدة صفحات يقوم إلى الحمام ليتقيأ وأنه قد قذف بطبق النقانق الذي كان على طاولته من النافذة، وهو يصيح لقد تسممت، لكثرة ما في الرواية من تصوير خارج إطار مخيلة الإنسان وحين أنهى الرواية شكَّل لجنة متخصصة للتحقق مما صوَّره "سنكلير" فجاء تقرير اللجنة ليقول: إن سنكلر لم يأت إلا على جزء يسير مما يجري في تلك المعامل ما دعاه لعقد اجتماع لهؤلاء الصناعيين موصياً إياهم بتحسين منتجهم، ومشجعاً لهم إذ قال لهم إنكم ستحققون أرباحاً أكثر إن أنتم حسّنتم إنتاجكم.. وهكذا صار..! ومثال آخر من روسيل لقيصرية يذكر أنَّ قيصر روسيا ألكسندر الثاني (ألكسندر نيقولايفيتش رومانوف) الذي ورث حكم روسيا عن أبيه قد قرأ مجموعة إيفان تورجنيف القصصية "مذكرات صياد"، وهي قصص اجتماعية تدين نظام القنانة العبودي، وتفضح جوهره، وتجليات قسوته في الواقع، بأسلوب ساخر يجسد مثالبه، ما جعل هذا القيصر، وبتأثير من فظاعة ما قرأ، يعمل على إلغاء ذلك النظام عام1861.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإنني أختم الحديث عن الأدب والثقافة والكتاب بالإشارة إلى ما حدث يوم الاثنين 25  من هذا الشهر في مدينة غازي عينتاب، فقبيل اختتام "ملتقى الكتاب الثالث" المقام في مقر منظمة الرواد المرخصة أصولاً بساعات قليلة، دخلت مجموعة من ممثلي الثقافة أو من جهة أخرى، وأعلنت عن مصادرة الكتب المعروضة تحت زعم أنها لا تحمل موافقة عرضها، وأخرجت زوَّار المعرض ، رغم أن الكتب ذاتها كانت قد دخلت تركيا على نحو نظامي، وعرضت في معرض إسطنبول، ولم تثر أية مشكلة حولها.. فكيف تُقبل في إسطنبول وتُرفض في غازي عينتاب رغم موافقة السيد والي غازي عينتاب على المعرض؟!

الحقيقة إن ما حصل، وبالأسلوب الذي اتبع، أثار الشك والريبة لدى جمهور واسع من الحضور وأزعج الناشرين، وأفسح في المجال للتقوُّل ونشر الإشاعات ومحاولة للنيل من العلاقة بين الشعبين السوري والتركي في ظروف حرجة كالتي نعيشها هذه الأيام..!

وأخيراً، ومهما يكن فسيظل للكلمة دورها الفاعل في حياة الناس أجمعين، وسيظل السياسي عندنا بحاجة إلى قراءة الأدب لإثراء روحه وأنسنتها أكثر فأكثر، وستبقى الكلمة الجادة الممتلئة بالروح الإنسانية منارة تقود إلى الأفضل والأجمل..!