"تنتهي حريتي عندما تبدأ حرية الآخرين" عبارة يعرفها أغلبنا، إذ أمضى آباؤنا وقتاً يسيراً في تعليمنا احترام حدود بعضنا الآخر، ذلك أن لكل إنسان، حدوداً له وأخرى عليه، من المعيب أن يقتحمها.
ومع أن هذه العبارة تحتمل كثيراً من التأويل وقد شابها ما لا يعد ولا يُحصى من الخروقات، وعلى الرغم من أني أؤمن بأن الإنسان حر طالما أن حريته لا تؤذي الآخرين، لكنني أفتقد وجودها في ظل معمعة صراعات الحرية القائمة في الوقت الحالي المختلَف حول تعريفها ومضمونها، من جراء محاولة إكساء المصطلح بما لا يمكن أن يتناسب معه، إلا أننا نعاني من حالة يمكن الاصطلاح عليها بأنها حرية ذات وجه واحد وأنانية، بما لا يتناسب مع مفهوم الحرية العام.
تأتي مناسبة هذا الحديث بسبب مشادة كلامية جمعت بين فريقين متشددين أحدهما علماني والآخر ديني، في معرض حديثنا عن حرية المعتقد وعن المواقف العنصرية اللاتي تتعرض لها النساء المحجبات في أوروبا.
ربما يعتقد أحدنا الآن أن التشدد قد حصل من طرف الفريق المتدين على اعتبار أنهم أصحاب تاريخ طويل فيه، غير أن المعضلة تبلورت عندما شرح أحد مؤيدي الفريق "اللا ديني" وجهة نظره، المتمثلة بضرورة إلزام النساء بعدم ارتداء الحجاب وإجبارهن على خلعه، وذلك من مبدأ أن النساء المحجبات مغيبات ومن واجبنا توعيتهن.
يُظهر بشكل واضح وجليّ أن التطرف الديني يقابله تطرف لا ديني يساويه في الشدة ويعاكسه في الاتجاه
قد يبدو التصريح مفاجئاً لأي مجموعة تتبنى أفكاراً عن الحرية، لكنه لا يبدو غريباً عن مجتمعاتنا، بل ينسجم تماماً مع حالة التغييب الديمقراطي التي عاشها أبناء العالم العربي، ويُظهر بشكل واضح وجليّ أن التطرف الديني يقابله تطرف لا ديني يساويه في الشدة ويعاكسه في الاتجاه.
لم أدرك أي أنواع التوعية التي عناها المتحدث في معرض ذلك النقاش، لكن ما جعلني أتوقف عنده أن كلا الفريقين يعتبران أنهما الصواب المطلق، وأن لهما الحق في فرض المعتقدات والأيديولوجيات وتطبيقها في المجتمع حتى ولو بالقوة.
لطالما اعتقد التيار اليساري العربي، أن النضال ينطلق من مبدأ معارضة الدين ومظاهر التدين وقد تعدى ذلك إلى معاداته واعتباره العدو الأساسي في معركة الوعي والتحرر، وسواء اتفقنا مع الفكرة أو اختلفنا ـ ذلك أنها ليست حقيقة مطلقة وتحتمل نقاشاً موسّعاً ـ فالدين جزء من هوية المجتمعات وأي محاولة لسلخ المجتمع عنه قد يُفقد المجتمع خصوصيته ويسلخه من جذره بشكل عنيف وغير مدروس.
النقطة الأهم تتمثل بأن يعتبر مثقفو النخبة المحسوبون على التيار العلماني، أن التوعية تتشكل من جانب واحد وأنها تنحصر بالتوعية غير الدينية، مع تجاهل دعم المجتمع وأهمية توعيته سياسياً وقانونياً، وكأن الدين هو مصدر الخلاف الوحيد بين الطرفين، ما يجعلهم قد يصلون إلى نقطة متطرفة في طرح فرضية "منع الحجاب"، وذلك على الرغم من أن التوعية القانونية والسياسية من أهم حوامل المجتمع الحر والأساس الأهم للمجتمعات الديمقراطية، ومع العلم أن اليسار العربي يُلام كثيراً على تقصيره في هذا الخصوص.
في مقاربة غير بعيدة تكفل معظم الدول حرية المعتقد وحرية التعبير وإقامة الشعائر الدينية، لكنها لا تقوم بفعل حقيقي وحازم لإنهاء حالة العنصرية الموجهة ضد النساء المسلمات ولا تحكم مرتكبي مثل هذه الأفعال بتهمة ازدراء الأديان، في مقابل ازدياد وتيرة حالة العنصرية وشدتها ضد النساء الملتزمات دينياً في العالم الغربي، أو فيمن يتمثلون قيمهم ويعتقدون أنهم أحرزوا بذلك تقدماً اجتماعياً.
إن ما يرفضه اللا دينيون في مواجهة "التغوّل الديني" للسيطرة على المجتمعات بمفاصلها كافة، يمارسونه بشكل معاكس ضد من يختلفون معهم في الرؤية، ما يشكل لديهم دكتاتورية مضادة تمهد الطريق لتشكيل "تغوّل لا ديني"، يرفض الاعتراف بحرية الآخر ويسعى إلى تطبيع عام للشرائح الاجتماعية على اختلاف معتقداتها ومرجعياتها الثقافية والسياسية والدينية، ما يجعلنا قد نقع في الفخ الذي أنفقنا سنوات في محاولة التخلص منه.
لقد أنفق كثيرون من وقتهم وجهدهم للدفاع عن حقهم في حرية التعبير، لكنهم تناسوا ذلك النضال في مواجهة من يختلفون معهم في الرأي، بل وأمعنوا في استخدام حريتهم حتى وإن ظهر فيها تعدٍّ واضح على حرية الآخر أو الانتقاص من حقه في حرية اللباس أو المعتقد.
إن تعبيرك عن وجهة نظرك الخاصة ـ سواء كنت مؤمناً أم غير مؤمن، متديناً أم كافراًـ يجب أن يكون أمراً مصوناً من دون أن يمنحك ذلك الحق حرية التنمر والسخرية من معتقدات الآخرين مهما كانت غريبة من وجهة نظرك.
سبب قلة التجربة وضيق الأفق قد يتشكل لدى الإنسان حالة من انعدام أهمية بأحقية الآخر وبعدم صوابية فكرته، ويجعل الصواب وامتلاك الحجج ملك فريق وحيد فقط
قد نستطيع أن نعزو حالة الاستبداد الفكري والدكتاتورية المضادة إلى طول الوقت الذي أمضته شعوبنا ترزح تحت الاستبداد، الأمر الذي جعلنا قد لا نتمكن من تشكيل مفاهيم حقيقية عن الديمقراطية والحرية، أو تعذر بسببه امتلاكنا حكمة الممارسة في حال فهمناها جيداً بسبب الظروف المحيطة.
وبسبب قلة التجربة وضيق الأفق قد يتشكل لدى الإنسان حالة من انعدام أهمية بأحقية الآخر وبعدم صوابية فكرته، ويجعل الصواب وامتلاك الحجج ملك فريق وحيد فقط، يعتقد أنه قد أُوتي العلم وحده وأنه يمتلك من الحكمة ما يمنحه قدرة على تقدير الموقف والتقرير عن الطرف الآخر القاصر علمياً ومعرفياً.
فيتشكل لدينا مشهد جديد لا يختلف عن المشاهد التي اعتدناها في زمن الاستبداد السياسي أو التي حاولنا فيها التخلص من سيطرة الدين على مفاصل الحياة العامة، ونمهد ـ من دون وعي ـ لاستبداد فكري وكأننا نعاود تشكيل حلقة من الوصاية في مواجهة من نعتبرهم محدودين وقُصّراً.