عن استعادة أحداث الثمانينات السورية

2024.01.08 | 06:19 دمشق

عن استعادة أحداث الثمانينات السورية
+A
حجم الخط
-A

لم يترك نظام حافظ الأسد للسوريين، من ذاكرة الصدام المسلح الذي خاضه ضد الإسلاميين بين عامي 1979 و1982، سوى قصة قصيرة جداً: تآمرت «عصابة الإخوان المسلمين» مع جهات خارجية لزعزعة استقرار البلاد، وجرى سحقها إثر ذلك. في فعل ينبغي الاستعداد لتكراره في أي فرصة، كما يقول شعار كان لزاماً على طلاب المدارس ترديده في كل صباح.

لم ينفع هذا الاختزال إلا في جعل الحكاية أكثر إثارة للفضول الذي لم تكن تلبيته سهلة لأسباب عديدة لا تقتصر على الأسلاك الأمنية الشائكة والمكهربة. من جهته طرح النظام روايته في كتاب بعدة أجزاء بعنوان «الإخوان المسلمون: نشأة مشبوهة وتاريخ أسود»، طغت دعاويته على ما تضمن من معلومات فأفسدت هدفه وعلاه الغبار في مكتبات الشُعب الحزبية والدوائر الحكومية دون قراء. وعانت رواية المناهضين الإسلاميين من الرقابة التي منعت دخولها وتداولها، فضلاً عن مشكلاتها الخاصة.

يفضّل «الإخوان المسلمون» اختصاراً آخر أطول قليلاً للقصة، يجمعون فيه بين مزايا العمل الديمقراطي لجماعة سياسية وفضائل الجهاد الرساليّ، في تلفيقية إخوانية باتت مشهورة. وهم يستندون إلى نقاط مختارة من أدائهم المتناقض في زمن «الأحداث» ذاك لإبراز وجههم المدني أو المسلح بحسب مقتضى الحال، ويتجنبون وضع كل النقاط على الحروف أو تقديم كشف حساب شفاف. وهو ما تمكن ملاحظته من المذكرات القليلة التي أصدرها بعضهم بصفة شخصية، كالمراقب العام الأسبق عدنان سعد الدين في كتابه «مذكرات وذكريات». في حين لم تنشر الجماعة روايتها الرسمية لسنوات الصدام رغم أنها وعدت بذلك طوال عقود.

إذا كانت الثورة قد انطلقت من مواقع مختلفة تماماً عما تؤمن به «الطليعة» فإن مجريات السنوات الثقيلة التالية كانت كفيلة بتقليص الفارق بين الحركتين إلى حد انعدامه في أذهان كثيرين

في حين أن رواية «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين»، المنشقة تنظيمياً وسياسياً عن الجماعة، تبدو أكثر طلاقة. وذلك حال الجماعات الفدائية الشهيدة على كل حال، إذ تكتفي بخلاصة مركزة من المبادئ التي «لا تلوثها زواريب السياسة وألاعيبها»، ثم تُسهب في وصف الخيانات التي تعرّضت لها من «المتاجرين» في مقابل بطولة أفرادها من الشبان الموصوفين دوماً بالإخلاص والتفاني. وهو ما يسم كتاب أبي مصعب السوري «الثورة الإسلامية الجهادية في سوريا»، ويبرز أكثر في مذكرات أيمن شربجي، القائد الأطول عهداً لتنظيم «الطليعة» في العاصمة، والتي ظهرت بعنوان «على ثرى دمشق». ورغم أنه سبق نشر هذا الكتاب على حلقات في أحد المنتديات الإلكترونية قبيل الثورة، إلا أنه لم يثر الاهتمام الكبير والمتصاعد الذي بات يحظى به اليوم لأسباب تتعلق باللحظة الراهنة.

فإذا كانت الثورة قد انطلقت من مواقع مختلفة تماماً عما تؤمن به «الطليعة» فإنّ مجريات السنوات الثقيلة التالية كانت كفيلة بتقليص الفارق بين الحركتين إلى حد انعدامه في أذهان كثيرين. إذ أدت عوامل كثيرة، أوضحها طريقة قمع النظام للاحتجاجات، إلى تراكمات حوّلت الثورة من لحظتها المدنية السلمية التعددية الأولى إلى الطائفية والتسلّح والأسلمة، في سياقات مفهومة وإن لم تكن مقبولة دوماً. والثلاثي الأخير هو، بالضبط، محاور تفكير «الطليعة» وعملها الواقعي في زمن التمرد التي أطلقته وحتى انفراط وجودها بشكل تنظيمي.

من البداية لم يوفر الأفراد القلة المتبقون من «الطليعة»، وكانوا موزّعين في أشتات الأرض، فرصة الانخراط في الثورة بعدما امتلكت جغرافيتها التي أتاحت لهم عبور الحدود الممنوعة عليهم والانضمام إلى القوى الإسلامية، سواء في تجارب مستقلة مثل «كتائب الطليعة المقاتلة» أو في «حركة أحرار الشام» أو «جبهة النصرة» أو سواها. وفي ما بعد، عندما أخذ الناشطون العلمانيون يُحبَطون ويغادرون تباعاً إلى المهجر الأوروبي، بينما ثبت «على الأرض» مسلحون طائفيون إسلاميون بالفعل أو يرفعون شعاراً إسلامياً؛ عاد الاعتبار لنشاط «الطليعة» وصارت توصف بأنها الثورة المبكرة المحقّة، صاحبة الرؤية الرائدة والمنهج الصحيح.

ولم يقصّر «الإخوان المسلمون» عن شغل دورهم في الثمانينات مجدداً. فدخلوا بقوة في التمثيلات السياسية للثورة بعد أن زادت سنوات المنفى الطويلة من مهاراتهم في الكولسة وعصبويتهم التنظيمية وأذرعهم التي تطل من هنا وهناك بأسماء منظمات إغاثة ومجتمع مدني، وأحزاب مجهرية، وفصائل لم يكتب لها النجاح. وكانت النتيجة الإجمالية انهياراً في سمعتهم التي نصّعتها المظلومية في أول الثورة.

لا يُفتح باب المستقبل حتى يستحق الماضي اسمه هذا بالكامل، وهو ما لا يبدو أنه يحدث اليوم في بلاد تتجدد فيها الثارات بدماء حارة كلما جفت القديمة

أما النظام فقد أثبت أنه لم يغيّر عقلية الثمانينات. فوسّع ما كان مارسه على مدينة حماة ليشمل نصف البلاد، وأطلق العنان لترسانة أسلحته دون حساب، وضاعف عدد من اضطرهم إلى الهجرة من عشرات الألوف إلى الملايين، وكذلك أعداد المفقودين والمعتقلين، وأعاد في سجن صيدنايا صناعة سجن تدمر إن لم يكن أشد. وقد ناسبته التحولات التي حصلت في خطاب الثورة وبنية فاعليها ليتمكن من القول إنها كانت منذ البداية حركة إسلامية طائفية مسلحة. وينسب إليها، مثلاً، عملية لم يتبنّها أحد هي الهجوم على حفل تخرّج طلاب ضباط «الكلية الحربية» في مطلع تشرين الأول من العام الماضي. مذكّراً، بالضرورة، بمجزرة طلاب ضباط مثلهم في «مدرسة المدفعية» في حزيران 1979، والتي كانت أبرز عمليات «الطليعة» والمؤشر على التصعيد الذي أورث الشرخ الدامي في الذاكرة الجمعية عقب مجزرة حماة.

لا يُفتح باب المستقبل حتى يستحق الماضي اسمه هذا بالكامل، وهو ما لا يبدو أنه يحدث اليوم في بلاد تتجدد فيها الثارات بدماء حارة كلما جفت القديمة. وبما أن نظام الأسدين هو حجر الزاوية السياسي والعسكري في هذا الثبات المميت وإعادة الإنتاج السام فإن أول خطوات التغيير لا بد أن تبدأ بسقوطه. كان هذا ضرورياً في عام 2011 وما زال ملحّاً.