عندما شعر سيغموند فرويد بالنّدم: ألا يكون التنوير من دون تجريح؟

2022.10.29 | 07:18 دمشق

عندما شعر سيغموند فرويد بالنّدم: ألا يكون التنوير من دون تجريح؟
+A
حجم الخط
-A

لا شكّ أن الربيع العربي شكّل فرصةً انتهزها كثيرون للتمرّد على القيود والخروج عن المألوف سياسيّاً واجتماعيّاً وثقافياً. ففي حين نجح بعض الثوّار العرب بالإطاحة بالحكام، أو بانتزاع أجزاء واسعة من البلاد من قبضتهم، عمل كثيرٌ من المثقفين والناشطين على الخروج على بعض الأنماط الاجتماعية السائدة أو التقاليد الثقافية الراسخة والتمرد عليها، وطرق كثيرٌ من الشجعان فكريّاً مسائل طالما كانت تابوهاتٍ بعيدةٍ عن النقاش العام. على سبيل المثال، هناك من وجد في الربيع العربي مناسبةً للخوض في مواضيع النسوية ووضع المرأة في الموروث الديني، أو في مسائل العشائرية والطائفية، أو في قضية التنوير والتجديد على صعيد الخطاب الديني وإعادة قراءة النصوص المقدسة.

بدلاً من أن يكون موضوع الدرس مثلاً الظروف الموضوعية والتراكمات التاريخية التي أوصلتنا إلى هنا وسبل الفكاك منها، نقرأ أطروحاتٍ ليست سوى حملات تفتيشٍ عن الخصائص السلبية المزمنة لمجتمعاتنا

لا غضاضة في أيٍّ ممّا ذكرنا أعلاه كونها من تجلّيات الحرية التي هي أساس أي فعل بشري مثمر، وكونها القيمة التي انتفضت الجماهير من أجلها، وضحّت بكثير للحصول عليها. لكن المحظور يقع عندما يتحول التمرّد المحمود الذي يسعى لإفادة الناس إلى فجورٍ وحالةٍ من التشفّي منهم والإساءة إليهم، وخصوصاً من قبل أولئك الذين غادروا الأوطان إلى المغتربات وصاروا في بحبوحةٍ من الوقت والموارد، بل والمنابر أيضاً، كي يقولوا ما يشاؤون بمطلق الحرية. وهكذا وبدلاً من أن يكون موضوع الدرس مثلاً الظروف الموضوعية والتراكمات التاريخية التي أوصلتنا إلى هنا وسبل الفكاك منها، نقرأ أطروحاتٍ ليست سوى حملات تفتيشٍ عن الخصائص السلبية المزمنة لمجتمعاتنا، ومن ثم محاكمتنا غيابيّاً على تلك الخصائص التي تجعلنا متخلفين وقاصرين ولا أمل لنا باللحاق بعجلة التطور العالمية. إن مجتمعاتنا العربية خسرت كثيراً في أثناء الثورات والحروب الأخيرة، وتعرّضت لمحنٍ كبرى من الفقد والتفقير والقتل والتشرّد، وإنه لمن الحيف الحمل عليها في هذه الفترة العصيبة من تاريخها.

في كتاب (عالم الأمس) للأديب النمساوي الراحل شتيفان تسفايغ يروي الكاتب عن صديقه عالم النفس الشهير سيغموند فرويد أنه كان مصدوماً جداً لانفجار الوحشية في الحرب العالمية الثانية، وأنه كثيراً ما تحدث معه عن الحرب ورعب عالم هتلر. كان فرويد -وهو مثل تسفايغ من أصولٍ يهودية- قد وضع قبل الحرب كتاب (موسى والتوحيد) الذي تناول فيه شخصية النبي موسى بطريقةٍ أساءت للمتدينين والقوميين اليهود. ولمّا أدت الحرب العالمية الثانية لمقتل الملايين من اليهود، يروي تسفايغ عن صديقه فرويد أنه ندم لتأليف الكتاب المذكور بسبب ما أحاق باليهود من بلايا، حيث قُتل الملايين في محارق النازية، وتشرّد من نجى منهم في أصقاع الأرض حزانى مكسورين، ومنهم بالطبع شتيفان تسفايغ نفسه الذي مات منتحراً في البرازيل. وينقل تسفايغ عن فرويد أنه قال متأسفاً ونادماً لتأليف ذلك الكتاب:

"الآن وقد أُخذ منهم كل شيء (أي اليهود) آتي أنا لأتناول أفضل رجلٍ عندهم".

منذ أن اطّلعت على هذه المعلومة التي نقلها تسفايغ في كتاب (عالم الأمس) عن سيغموند فرويد لم أتوقف عن التفكير بتلك الفئة من المثقفين العرب الذين أخطأوا التسديد وراحوا يخوضون في قضايا التطور الاجتماعي والوضع الحضاري لمجتمعاتهم بأساليب جارحة بحيث بدأوا يعيّرون شعوبهم بالتخلف والرجعية متبرّئين من ثقافتهم، ومتجرّدين من هوياتهم كطريقةٍ سهلة للتنصّل من مسؤولياتهم الوطنية والأخلاقية في تحقيق مجتمعاتهم للتغييرات الإيجابية المطلوبة.

ندم سيغموند فرويد عندما جرحهم من دون قصدٍ وهو يسعى -كفردٍ منهم- إلى ترقيتهم وتنويرهم

لا يريد هذا المقال أن ينتهي للقول بالتوقف عن الخوض بأحاديث التنوير وضروب التغيير التي نحتاجها مجتمعياً وفكرياً وتنويرياً، بل على العكس يشجّع على ذلك ويحضّ عليه، لكنه يدعو بالموازاة من ذلك إلى الرفق بضمائر الناس، ومراعاة عذابات مجتمعاتٍ مكسورة ومهيضة وبالوقت نفسه غير مسؤولة وحدها عن سلبياتٍ وتراكمات تاريخية عمرها مئات السنين، وتتحمل مسؤوليتها أجيالٌ متعاقبة وليس جيلاً واحداً ورثها كما هي.

إن شعوبنا العربية التي قتل أبناؤها، ودُمّرت مدنها، ثم تشردت في الداخل والخارج -وخصوصاً الشعب السوري- لهي في حالٍ أشبه بحال اليهود بعد الحرب العالمية الثانية، أولئك الذين ندم سيغموند فرويد عندما جرحهم من دون قصدٍ وهو يسعى -كفردٍ منهم- إلى ترقيتهم وتنويرهم. والأجدر بالندم هم أولئك الذين يسيئون اليوم لمجتمعاتهم العربية عن قصدٍ وإصرار- هذا إذا افترضنا أن فيهم من الروح الأكاديمية والمشاعر الإنسانية ما كان موجوداً عند سيغموند فرويد.