علبة حلاوة الروح..

2023.09.29 | 06:40 دمشق

آخر تحديث: 29.09.2023 | 06:40 دمشق

علبة حلاوة الروح..
+A
حجم الخط
-A

رغم مرور عشر سنوات إلا أن حادثة الاعتقال لم تغادر ذاكرتي ولو لفترة قصيرة، وخصوصاً تلك الفترة التي قضيتها معتقلاً في المشفى العسكري، مشفى يوسف العظمة المعروف بمشفى (601). حيث يتم فرز المحالين من الأفرع الأمنية إلى المشفى على مهاجع تزدحم بعدد كبير من معتقلين مرضى أو جرحى أو من يعاني كسوراً أو شللاً.

نتيجة للازدحام أصبح السرير الواحد مأوى لاثنين أو ثلاثة وبعد أن غصت الأسرة المتراصة بقاطنيها تم نثر المعتقلين بين الأسرة على أرضية المهجع العارية من كل شيء إلا القذارة. عندما نقلت إلى المشفى كنت كحال العديد في حالة هذيان نتيجة لظروف الاعتقال والتعذيب في مطار المزة العسكري حيث لا يمكن لك النوم وقوفاً في غرفة محشوة بالخوف من القتل تعذيباً.

عندما استعدت وعيي كان المشهد كمن تفتح أمامه ستارة مسرح حيث يبدأ باستكشاف خشبة المسرح ومن عليها. لم يكن المشهد أقل مأساوية عنه في المعتقل الذي غادرته إلا أن مهجع المشفى يتضمن أسرة وله نافذة كبيرة تمتد إلى سقف المهجع تستقبل شمس الصباح. لم يكن هناك أغطية (ملاءات) وكانت الفرشات من الإسفنج المضغوط مغلفة بجلد صناعي رخيص مهترئ كانت هذه الفرشات تتآكل من أطرافها حيث نقوم "بنتف" قطع صغيرة من الإسفنج لننظف أنفسنا! في تلك الفترة، ولأسباب غير معلومة، لم يسمح باستخدام الحمامات ودورات المياه فكان يتم تلبية "نداء الطبيعة" في عين المكان الذي نعيش فيه باستخدام عبوات وسلل يتم ترحيلها دورياً.

لم يكن هناك لباس خاص للمرضى، بل بقوا بملابسهم تماماً كما الحال في المعتقلات الأمنية وكان بإمكانك تخمين مدة اعتقال الأشخاص من مدى اهتراء ألبستهم. كان هناك من لباسه يشف الهيكل البشري الذي يسكنه.

كان الجوع أحد أدوات القهر والتعذيب الصامتة المستخدمة في المشفى فحصص الطعام المجدولة: الفطور، الغداء، والعشاء. كانت بكميات قليلة جداً وكان لا يمكن للكثير من المعتقلين المرضى أن يتناولوا الشوربة (الحساء) ببساطة؛ لأنه ليس لديهم علبة (عبوة) بلاستيكية لوضع حصتهم فيها، ويكتفون بأخذ قطعة خبز وحبة البطاطا التي كنا لا نملك رفاهية الاستغناء عن قشرتها!

بلغ الجوع حداً بشاب من حماة اسمه سعيد وكان مكبلاً على السرير الملاصق لسريري (كل مريض يكبل من قدمه، أو يده إذا كان مصاباً بقدمه، بسلسلة حديدية ذات قفل إلى سريره) أن يقرر الصيام إلى المغرب رغم هزاله!! فحين استغربت قراره علل ذلك بأنه يحلم أن يشبع من الطعام ولو لمرة واحدة؛ وليحقق ذلك قرر أن يصوم ويجمع الوجبات الثلاث، ويتناولها عند المغرب دفعة واحدة متوقعاً أنه سيشعر بالشبع عندها.

كان هذا المعتقل المريض يتحدث لمن بجواره عن كيفية تصنيع الحلويات الدمشقية وغالب "الجمهور المتضور جوعاً" يطالبه بإعادة سرد طريقة تحضير الكنافة النابلسية

من شدة الجوع كان البعض يطلب ممن بجواره أن يتحدث عن أكلة يحبها، عن مكوناتها، عن كيفية تحضيرها. وكان أكثر من يطلب منه ذلك أحد المعتقلين من داريا حيث اعتقله حاجز أمني بطريقه إلى مطار دمشق ليغادر إلى السعودية حيث يعمل هناك في محل لتصنيع الحلويات. كان يبرر اعتقاله بكونه من عائلة ينتمي لها أحد أهم رموز النشاط السياسي في مدينة داريا. وكان يلوم حظه الذي أدى به إلى المعتقل. كان هذا المعتقل المريض يتحدث لمن بجواره عن كيفية تصنيع الحلويات الدمشقية وغالب "الجمهور المتضور جوعاً" يطالبه بإعادة سرد طريقة تحضير الكنافة النابلسية. هذه الكنافة التي تباع بمحلات مجاورة "للمشفى المعتقل" في منطقة المزة شيخ سعد.

كنت أراقب بصمت مجموعة الخدمة التي تحضر الطعام إلى المهجع (تسمى السخرة ويبدو أنهم ليسوا معتقلين على خلفية الثورة) بشكل دوري وكيف يتناول المعتقل رغيف الخبز وعليه حبة البطاطا وأحسد من لديه علبة "عبوة" بلاستيكية فارغة فيتمكن من أخذ حصة من الشوربة ليشربها (لا توجد ملاعق فكانت تشرب على دفعة أو اثنتين).

صرت أتساءل من أين أتت هذه العبوات! وكيف فاز البعض بهذه الملكية الثمينة التي مكنتهم من تحصيل وجبة الشوربة.

سألت المعتقل المكبل معي على نفس السرير من دير الزور، كان مقيماً قبل اعتقاله في مساكن برزة في دمشق، وكان من قدامى المعتقلين في المهجع (حسب روايته: استقبله أحد عناصر الأمن المشرفين على المهجع بالضرب الشديد بأنبوب- من البلاستيك المضغوط المستخدم في تمديدات المياه المنزلية- على أسفل ظهره فأصيب بشلل بأطرافه السفلى من اليوم الأول له في المشفى!) حول هذه العبوات الفارغة من أين أتت؟ أجابني أنه في فترات سابقة كانت حصص الطعام أفضل وكانت تتضمن أحياناً الحلاوة الطحينية معبأة بعبوات بلاستيكية. يبدو أنها وبعد أن تم تفريغها كان بعض عناصر السخرة يوزعها على المرضى المعتقلين.

السخرة كانت تتحرك في كل مهاجع المرضى المعتقلين والتي على ما يبدو أن كل مهجع يستقبل المحالين من فرع أمني محدد وكان أخطرها فرع الأمن العسكري، وكان مهجعنا يستقبل المحالين من المخابرات الجوية والتي يظن أنها تستقبل الأقل خطورة، وقد يكونوا من القلة المحظوظة التي يفرج عنها لاحقاً (لاحقاً تأكدت صحة هذا الافتراض على الأقل بالنسبة لي) لهذا السبب أحد عناصر السخرة أعطى مريضاً معتقلاً من داريا أرقام هواتف ذوي بعض المعتقلين المرضى من مهجع "الأمن العسكري" على أمل، في حال خروجه، أن يتصل مع ذوي المعتقلين ليخبرهم عن أوضاع أبنائهم. ولكن كيف يمكن له أن يحفظ أرقام هواتف متعددة؟! لهذا قام عنصر السخرة بكتابة أرقام الهواتف على بنطال المعتقل الداراني (كان بنطاله من الجينز وقد قاوم بشكل معقول الاهتراء) وحيث إن لون بنطال "الجينز" أزرق فكانت الأرقام المكتوبة لا تكتشف إلا بتدقيق كبير. من سوء حظ الجميع أن هناك من أخبر عناصر الأمن عن هذا الأمر؛ مما كلف عناصر السخرة حياتهم!! وكذلك المعتقل الديراني الذي كتبت الأرقام على بنطاله وصل إلى شفا الموت من التعذيب، وكلف جميع المرضى المعتقلين ألبستهم المهترئة: حيث أمر الأمن الجميع بنزع ألبستهم حتى الداخلية منها لنعيد سيرة الإنسان الأول في بدء مسيرته على هذه الأرض المعذبة!! وبقي هذا حالنا إلى أن أحلنا إلى فرع الشرطة العسكرية في القابون.

كان العديد من الأرقام (المرضى المعتقلين) يموتون إهمالاً أو تعذيباً وكنا من لحظة دخولنا المشفى عبارة عن أرقام ننادى بها وتقيد أحوالنا في ديوان المشفى تحتها

رغم فقداننا لستر الألبسة بقيت علبة الحلاوة الفارغة حلم اليقظة للعديد من الجوعى المعتقلين، ولكن كيف يمكن اغتنامها؟ فلا يتخيل أن يتخلى عنها من يملكها، ولم يغادر أحد المهجع، رغم وصول إخباريات متكررة عن "مراسيم عفو" إلا أن أياً منها لم يدخل مهجعنا!

كان العديد من الأرقام (المرضى المعتقلين) يموتون إهمالاً أو تعذيباً وكنا من لحظة دخولنا المشفى عبارة عن أرقام ننادى بها وتقيد أحوالنا في ديوان المشفى تحتها. هذه الأرقام مكتوبة على ورق لاصق على جبهاتنا. هذا الرقم يختزلنا نحن أشباه الأحياء في عالم الأسد. أما عندما فينتقل أحدنا إلى عالم أقل ظلماً (على ما أظن) فإن هذا اللاصق ينزع من على جبهة من مات ويوضع لاصق جديد، هذه المرة، على معصمه برقم مختلف وعليه اسم الفرع المحال منه. هذا حال الكثير من المرضى المعتقلين. اثنان منهم جاءا بعدي إلى المهجع وتم تكبيلهم إلى سريري وماتوا بجواري بأزمنة مختلفة.

في أحد صباحات الأيام الأولى من شهر نيسان 2013، اكتشف شاويش المهجع أن أحد قدماء المعتقلين المرضى قد توفي ليلاً. فقام بالنداء على حراس المهجع. عندها علم الجميع بوفاة "رقم" قديم، فصاح أحد المعتقلين المرضى: "إذا ترك وراه علبة حلاوة فاضية بدي ياها!".