عقيدة الحروب العالمية الجديدة

2023.06.12 | 06:07 دمشق

عقيدة الحروب العالمية الجديدة
+A
حجم الخط
-A

لا يبدو أن الحرب العالمية الجديدة، أو ما يتعارف عليه بحروب الوكالة، ستضع أوزارها قريباً، فالعقيدة الجديدة للحروب الدولية والتي رسمت حدودها سياسة عدم الاشتباك المباشر بالجنود \ المواطنين وفكرة الخوض عبر الوسطاء في حروب استباقية على أرض ليست بأرضك. وبعيداً عن الحدود.

وهذا بالضبط ما تفعله الولايات المتحدة بعد الدرس القاسي الذي تلتقه بعد حروب العراق وأفغانستان، وهذا ما تفعله إيران وروسيا ودول عديدة في العالم..

روسيا التي تخوض حرباً وجودية في أوكرانيا، تعتمد بشكل كبير على ميليشيات فاغنر التي يقودها رجل روسي، وهم عبارة عن مرتزقة مدفوعي الأجر تم جمعهم من كل أرجاء العالم لقاء رواتب شهرية مجزية. وهي تستخدم تلك الميليشيات كذلك في سوريا وليبيا لحماية حقول الفوسفات والثروات الباطنية التي حصلت على حقوق استثمار فيها كنوع من التعويض على تدخل سلاح طيرانها في حسم معارك معينة في الأزمة السورية. في سوريا تقوم ميليشيات فاغنر وما يعرف بميليشيات (محاربو داعش) بحماية تلك المناجم وتسهيل دخول وخروج البضائع منها وإليها.

بعد تصعيد لفظي سريع اشترك فيه رئيس إيران نفسه، وأحد قادة طالبان، انطلقت المدفعيات والرشاشات على حدود سيستان بلوشستان، لتحصد أرواح العديد من حرس الحدود الإيراني

إيران بلا شك هي أحد مُنظري هذا المذهب، إذ إنها ومنذ عقود طويلة تؤسس لهذا الشكل من الحروب عبر زراعة وتربية ميليشيات مرتبطة بها عقائدياً وسياسياً ومالياً، تستخدمها عند الحاجة وتوجه عبرها دائماً رسائل سياسية للأطراف التي تعتبرها خصماً لها. عبر تلك الأذرع سيطرت إيران على فضاء كبير في الشرق الأوسط، وتحكمت بشعوب كثيرة وواجهت خصوماً كثراً.. لكنْ ما فات القادة الإيرانيين أنَّ توجههم غرباً وتركيزهم الكبير على السيطرة على سوريا والعراق وفلسطين ولبنان واليمن. منعهم من الذود عن حدودهم الشرقية، والشمالية، فبعد العداء المفرط الذي جمع إيران بالجارة الشقيقة الشمالية أذربيجان، وصراع الوجود الصفري بينهما، وتقارب باكو مع تل أبيب، ها هي إيران تواجه مشكلات استراتيجية عبر بروفا سريعة للحرب مع حكومة طالبان التي تحكم كابول، فبعد تصعيد لفظي سريع اشترك فيه رئيس إيران نفسه، وأحد قادة طالبان، انطلقت المدفعيات والرشاشات على حدود سيستان بلوشستان، لتحصد أرواح العديد من حرس الحدود الإيراني، ولتتوقف الأمور عند هذه النقطة من التهديد، التي أرعبت جميع حكومات آسيا الوسطى بمن فيهم طهران وبكين وحتى إسلام ىباد.

فالمساحة المعطاة لطالبان كي تخوض حروباً خارج حدودها باتت واضحة، والشراسة في التحدي والرغبة في نقل المعارك خارج أفغانستان لم تعد خافية على أحد، إذ ما من شيء تخسره طالبان من حروبها تلك، فأفغانستان بلد خطير يسميه سكانه مقبرةً للغزاة، وقدرة طالبان على خوض حروب متعددة الأشكال منها حرب العصابات وحرب إخلاء المدن، والحرب القذرة التي تعتمد على العمليات الإرهابية، غير محدودة، من دون أن ننسى العامل الطائفي المشتعل بين كابول وطهران والذي بإمكانه حشد الرأي العام إن أُريد له هذا. فإيران دعمت وتدعم كل أعداء طالبان، ابتداء من أحمد شاه مسعود وتحالف الشمال إلى تبنيها اللاجئين الأفغان من إقليم مزار شريف وتحويلهم إلى ورقة لعب بيد سياساتها ومنها إرسال عشرات الآلاف منهم إلى سوريا تحت مسمى ميليشيات فاطميون.

لا تبدو الأمور سهلة على قادة إيران كما اعتادوا أداءَ دورهم في الشرق الأوسط العربي. فإما أن تشكل إيران ميليشيات جديدة للقتال ضد طالبان، أو أن تقوم بسحب ميليشياتها من سوريا، فاطميون وزينبيون وعصائب أهل الحق الخ، وتوجيههم للقتال في حرب طائفية عبثية ضد حكومة طالبان

وطالبان بدورها قامت بالعديد من العمليات ضد مزارات دينية ادّعت إيران حمايتها في غرب البلاد، واغتالت شاه مسعود، وأطبقت على البلاد، من دون أن ننسى أن حركة طالبان وفي عقيدة قادتها تعتقد أن إيران سهّلت أو تغاضت عن الغزو الأميركي في 2001، كما فعلت في العراق 2003.

لذلك لا تبدو الأمور سهلة على قادة إيران كما اعتادوا أداءَ دورهم في الشرق الأوسط العربي. فإما أن تشكل إيران ميليشيات جديدة للقتال ضد طالبان، أو أن تقوم بسحب ميليشياتها من سوريا، فاطميون وزينبيون وعصائب أهل الحق الخ، وتوجيههم للقتال في حرب طائفية عبثية ضد حكومة طالبان.

لكن وبغض النظر عن التفاصيل، فقد أصبحت إيران مطوقة، وقائمة أعداءها تزداد بالفعل، حتى بعد أن اعتقدت أن اتفاقية السلام مع الرياض التي أنجزت في الصين أوائل العام، قد أراحتها من جزء كبير من أعبائها التحريضية، التي كانت تستوجب الاستنفار الدائم والحذر من خطر المواجهة وانفلات عنان ميليشياتها في المنطقة. حيث وجدت طهران نفسها أمام كم هائل من العداوات من جهة الشرق ومن حيث لا تحتسب، وتبدو تركمانستان مرشحة لعداء أو استفزاز مع طهران بعد تدشين العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل. من نافل القول إن هذا الحصار والعداء يعزز نبرة المظلومية التي ترفعها حكومات رجال الدين في طهران، وبأنهم مستهدفون، لكن بلا شك وبعد تجارب مريرة ودموية خاضها الشعب الإيراني قبل بقية شعوب الشرق الأوسط، فإن لحن المظلومية لن يقنع الكثيرين في ظل خوض الحرس الثوري في دماء كثير من شعوب المنطقة.

المشهد يتكشّف عن تعقيد جديد، والحروب بالوكالة تماماً مثل رقعة شطرنج، كل مربع فيها هو مكسب وحصار أو مأزق.. وكما وجدت روسيا نفسها في حرب يريد الغرب لها أن تغرق فيها لسنوات طويلة في أوكرانيا، ستجد إيران كذلك نفسها مجبرة على الخوض في الحروب التي تفادت الانزلاق فيها منذ عام 1988، بعد حرب العراق الطويلة التي كلفتها كثيراً.

ولن تجد مفراً من العودة إلى الحروب الكلاسيكية حينما لن تجدي الحرب بالوكالة نفعاً على حدودها. فهل سيجدي الضغط العسكري والتلويح بالمخاطر الإقليمية من أجل الحصول على تنازل يفضي إلى عودة إيران من الثورة إلى الدولة. أم أن شرق الشرق الأوسط مرشح للتصعيد الدموي من باكستان وحتى حدود بحر قزوين؟