عشق الكرويّة الساحرة هل هو دينٌ عالمي؟!

2022.12.13 | 06:26 دمشق

كرة القدم
+A
حجم الخط
-A

كما كلّ مرّة، وفي عالمنا العربي تحديداً، تندلع الاشتباكات بالآراء المتناقضة فيما يخصّ الموقف من كرة القدم بين مؤيّد ومعارض، مشجّع ومستهجن، غاضب ساخطٍ وراضٍ مسرور مبتهج من هذه الفعالية العالمية.

البعض يرى أنّ ثمّة ما هو أهمّ وأولى لنا نحن العرب، فأغلبيّة بلداننا تقبع منذ سنوات تحت وطأة الحروب والاحتلالات الخارجية، ويعاني غالبيةُ سكانها من الفقر والأمراض وانعدام فرص العمل وأبسط شروط الحياة الإنسانية الكريمة، فضلاً عن أنّ بعض هذه الشعوب تعيش حالة مرعبة من التهجير والموت في مخيمات اللجوء والنزوح وعلى طرقاتها وفي المعتقلات كالشعب السوري.

لكن في المقابل، ثمّة من يرى في هذه الفعالية العالمية فرصة حقيقية لتغيير النظرة عن الواقع العربي، ولإعطاء صورة مشرقة عن العرب، وتبيان عكس ما روّجته عنهم وسائل الإعلام وسينما هوليوود والدعايات الصهيونية على مدار عقود.

لا يكمن سحر هذه الرياضة فقط في بساطتها من حيثُ قواعد اللعب، على عكس رياضة كرة القدم الأميركية مثلاً، ولا في الفنيّات الجماليّة التي أبدعها وطوّرها لاعبوها عبر تاريخ نشوئها الحديث نسبياً إذا ما قورنت بالرياضات الفردية المعروفة منذ مئات الأعوام، بل يكمن أيضاً في طبيعة المجتمعات البشرية عموماً وما وصلت إليه بعد مرحلة الثورة الصناعيّة في الغرب

يستشهد أصحاب هذا الرأي بما قدّمته في هذا المجال دولة قطر، الدولة الصغيرة بمساحتها، الكبيرة بهمّة أهلها، القويّة بإرادتهم وعزيمتهم، الغنيّة بأفعالهم وبما حباهم الله من ثروات طبيعية، استطاعوا استثمارها على خير وجه لبناء وطنهم والعيش بعزّة وكرامة ورفاهية لا يدانيهم فيها أي شعب في العالم.

هذه الاستجابة العظيمة والقدرة الهائلة على النجاح في تنظيم استحقاق عالميّ بهذا الحجم، يؤشّر ويدلل حسب رأي هؤلاء على إيجابيّة الحدث وضرورة الاستفادة منه وتوظيفه، ليس فقط لتغيير الصورة النمطية عن العرب، بل ولنشر شيء من ثقافتهم وحضارتهم وقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم، التي هي بلا أدنى شكّ جزء من الحضارة الإنسانية وإرثها المتراكم عبر العصور.

لا يكمن سحر هذه الرياضة فقط في بساطتها من حيثُ قواعد اللعب، على عكس رياضة كرة القدم الأميركية مثلاً، ولا في الفنيّات الجماليّة التي أبدعها وطوّرها لاعبوها عبر تاريخ نشوئها الحديث نسبياً إذا ما قورنت بالرياضات الفردية المعروفة منذ مئات الأعوام، بل يكمن أيضاً في طبيعة المجتمعات البشرية عموماً وما وصلت إليه بعد مرحلة الثورة الصناعيّة في الغرب.

لقد غيّرت الصناعة الحديثة بنية المجتمعات الغربية بشكل جذري، وانتقل هذا التغيير شيئاً فشيئاً لبقيّة المجتمعات البشرية. قلّ اعتماد الإنسان على القوّة العضلية مع تطوّر الآلات، وبات من الطبيعي انتقال الناس أكثر من الأرياف نحو المدن، وكانوا يحاولون السكن قرب من يعرفونهم من أهالي قراهم وضيعهم، فانتقلت وراءهم كثيرٌ من البنى المؤسسيّة مثل الكنائس التي لحقت بأتباعها إلى أحيائهم، في محاولة للحفاظ على العلاقة بهم.

لم يكن بإمكان الناس بعد أن تحولوا من فلاحين إلى عمّال، البقاء بذات العقليّة التي طالما عاشوا بها وكذلك آباؤهم وأمهاتهم وأسلافهم طيلة قرون سابقة. صار لزاماً عليهم التكتّل ضمن مجموعات جديدة للحفاظ على أنفسهم، فنشأت النقابات والاتحادات بحكم ازدياد عدد البشر في أماكن ضيّقة متقاربة كالمدن. ولم تعد الحلول السماويّة التي تطرحها الكنائس بقادرة على إقناع هؤلاء الذين يعيشون بكدحٍ وشظف، بينما يعيش أرباب عملهم بنعيم الثروة التي ينتجونها لهم. ومن خلال تجمّعهم في أماكن العمل ثم في صالات الطعام المشترك ثم في قاعات اجتماعاتهم في نقاباتهم واتحاداتهم، أدركوا حجم القوّة الجماعية، فباتت أصواتهم أعلى وصارت مطالبهم أقرب للتحقق بدوام النضال الجماعي.

من خلال ذلك كلّه تطوّرت فكرة الموسيقا الصاخبة والكرنفالات الجماعية في الصالات الكبرى المغلقة أو في الساحات الكبيرة المفتوحة التي تشمل أحياناً مدناً بكاملها. إنّها مكانٌ مثالي لتفريغ طاقات الجماعات من جهة، ولترويج المنتجات الصناعية من جهة ثانية.

كذلك حصل الأمر ذاته فيما يتعلّق بالرياضات الجماعية، فكانت مسرحاً يثبت فيه الناس قدرتهم على التواصل وعلى التعبير عن ذواتهم، ثم كانت متنفّساً لأصحاب رؤوس الأموال والشركات أيضاً، بحيثُ يتفجّر غضب الطبقات الفقيرة بعيداً عنهم وفي مجالات سلميّة لا تُضيرهم في شيء، بل على العكس تنفعهم وتدرّ عليهم الأرباح، باعتبارها أصبحت أسواقاً واسعة لتصريف منتجاتهم وخدماتهم التي اخترعوها لتتناسب وتتوافق مع هذا التجمعات البشرية واحتياجاتها المتزايدة.

إنها دين بلا شرائع سماوية، دينٌ يوحّدُ أتباعه ضدّ بعضهم البعض، ويفرّقهم بالوقت ذاته، دينٌ المفارقات والعجائب، دينٌ قائمٌ على السحر رغم استناده إلى العلم والمنطق والقانون، دينٌ جميلٌ لذيذٌ بلا مشقّة الطاعات وبلا جهد المؤمنين وبلا حسابٍ يوم الآخرة..

تحوّلت كرة القدم مع مرور الأيام إلى ما يشبه الإيدلوجيا العالميّة، أيديولوجيا مفهومة من كل البشر، مفصّلة بحيثُ تُرضي كلّ الأذواق، موزّعة على كل جهات الأرض، عابرة للأديان والقوميات والطوائف والمذاهب، تبدو كأنها غير مسيّسة رغم أنّها كذلك في العمق، تتمظهر بصورٍ بهيّة خلّابة برّاقة، تهزّ وجدان الناس، فترفع معنويات هؤلاء اليوم وتحطمها غداً، تشعرُ هؤلاء بالفخار الآن وبالذلّ بعد حين، تقرّب النصر من هذا وتُدني الهزيمة من ذاك، إنها دين بلا شرائع سماوية، دينٌ يوحّدُ أتباعه ضدّ بعضهم البعض، ويفرّقهم بالوقت ذاته، دينٌ المفارقات والعجائب، دينٌ قائمٌ على السحر رغم استناده إلى العلم والمنطق والقانون، دينٌ جميلٌ لذيذٌ بلا مشقّة الطاعات وبلا جهد المؤمنين وبلا حسابٍ يوم الآخرة، بل في نهاية كلّ جولة وكلّ موسم!

هذا هو الإنسان إذ يجعل من ذاته محوراً للكون رغم أنّه وأرضه كلّها ذرّة لا مرئيّة في خلق الله الواسع، يصنع الدين لنفسه ويعممه على خلق الله ثم يتبعه ويدينُ به حتى يكاد يستعبده وهو صانعه.