عشرة أيام هزت كازاخستان

2022.01.21 | 04:44 دمشق

qbl-khmst-ayam-madha-yhdth-fy-kazakhstan.jpg
+A
حجم الخط
-A

تثبت الطريقة التي تنفجر فيها الأحداث في البلدان المحكومة بالاستبداد حجم الدمار الداخلي والكبت السياسي، وكازاخستان إحداها. فقد خرجت هذه الدولة الشاسعة من اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية عام 1991 لتنتقل إلى الحديقة الخلفية لروسيا الجديدة – القديمة، ولم يتعدَّ التغيير السياسي الذي حصل فيها انتقالَ نزارباييف، من مكتبه في الكرملين، كعضو في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي، إلى عاصمة بلاده الأم ألمآتا، كرئيس لجمهورية كازاخستان، مستندًا إلى رغبة شعبية عارمة في التخلُّص من سطوة "الأخ الأكبر" الروسي، كما بالنسبة لجميع شعوب آسيا الوسطى السوفياتية السابقة.

وباعتبار أن الجغرافيا قدر لا فكاك منه، لجأ نزارباييف إلى تنويع علاقاته وشراكاته الاقتصادية مع دول أخرى قوية، كالولايات المتحدة والصين وتركيا، من خلال منحها حقوق الاستثمار في الثروات الطبيعية وغيرها، في محاولة لتحقيق نوع من التوازن مع الجار الروسي، الذي ما تزال صواريخه تنطلق من قاعدة "بايكانور" في قلب كازاخستان إلى الفضاء الخارجي، من أجل تحقيق درجة أعلى من الاستقلال السياسي.

بالمقارنة مع ثورات الربيع العربي، فقد تكثًف الحدث الكازاخي لينتهي في عشرة أيام؛ احتجاجات سلمية لم تلبث أن تحولت إلى اشتباكات عنيفة

وبعد ثلاثين عامًا، يمكن القول بأن قفزة اقتصادية قد تحققت بالفعل في كازاخستان، على الأقل مقارنة بجيرانها، لكن على حساب العدالة الاجتماعية والحرية السياسية، ما يفسح المجال، عاجلًا أو آجلًا، لاندلاع احتجاجات فجائية وعنيفة، نظرًا لغياب المجتمع المدني المنظَّم، وبوصفها كذلك، يسهل استغلال الاحتجاجات من قبل قوى متطرفة داخلية أو أطراف خارجية. وبالمقارنة مع ثورات الربيع العربي، فقد تكثًف الحدث الكازاخي لينتهي في عشرة أيام؛ احتجاجات سلمية لم تلبث أن تحولت إلى اشتباكات عنيفة، تلاها طلب تدخل قوات معاهدة الأمن الجماعي بقيادة روسية، ثم الإعلان عن انسحاب هذه القوات، فكيف حصل ذلك خلال هذه المدة القصيرة؟

ساعد تسارع الحدث الرئيس توكاييف، خليفة نزارباييف منذ عام 2019، على عدم التردد في اتخاذ القرار باستدعاء التدخل الخارجي، بالتزامن مع توجيه الاتهامات في مختلف الاتجاهات، خشية أن تلاقي بلاده مصير بلدان الربيع العربي الدامي، فبدا وكأنه يسارع الزمن لقمع التمرد وتجاوز الأزمة بكل الوسائل، ومنها استقدام قوات روسية، الشر الذي لا بد منه. لكن، وما إن هدأت العاصفة، حتى أعلن عن انسحاب هذه القوات، ذلك أن توكايف يعرف فداحة الوقوع تحت النفوذ/ الاحتلال الروسي المباشر، فقد كان ثقيلًا ومضنياً تاريخياً على كازاخستان وجيرانها في العهد السوفياتي.

إنها عشرة أيام هزت كازاخستان وعبرت كسحابة، لكن الأمر سيتوقف على ما الذي سيفعله الرئيس الجديد لمنع تكرار الحالة، من خلال إزالة الأسباب الحقيقية، وهي التخلص من إرث الرئيس السابق، وليس مجرد توجيه الاتهامات له بالفساد، فضلًا عن إشاعة المزيد من الشفافية والحريات، فهل يستطيع الرئيس فعل ذلك وهو الذي جاء به نزارباييف في انتخاباتٍ مشكوك في نزاهتها؟ هذا ما ستكشفه القادمة من الأيام.

تكشف الاحتجاجات الكازاخية عن مأزق روسيا أيضًا، إذ تبيّن بأن دول آسيا الوسطى الموقعة معها على معاهدات التحالف ليست على ما يرام، ويمكن أن تنفجر أزماتها في أي لحظة، وهي المتورطة في قضيتين دوليتين، أوكرانيا وسوريا، من دون تحقيق أي نجاح يُذكر في الاتفاق حولهما مع الغرب. أما ما يتعلق بتصريح الرئيس الروسي بأنه لن يسمح بقيام ثورات في آسيا الوسطى فهو يعبر عن نظرة أمنية تفتقر إلى القدرة السياسية والاقتصادية على إحداث تغييرات إيجابية، في الوقت الذي تعمل فيه الصين على تقديم المزيد من الإغراءات الاقتصادية إلى هذه البلدان وإشراكها في مشاريعها الطموحة لإحياء طريق الحرير، فضلًا عن الحضور التركي والأميركي. إن أكثر ما يمكن لروسيا فعله هو المحافظة على الوضع الراهن في دول آسيا الوسطى لأطول فترة ممكنة، ويبدو أن الرئيس الروسي لم يتعلم من تجربة الاتحاد السوفياتي، الذي لم تنفعه ثلاثة عشر ألف رأس نووي في البقاء.

يبدو أن التعويل على أي قوة سياسية دينية خطأ شعبي غير مقصود بيد أنه يعدُّ خطيئة بالنسبة لـ "النخب"

وعلى الرغم من حالة دول آسيا الوسطى السوفياتية السابقة وما ينتظرها، فلا يمكن مقارنتها بحالة الاستنقاع والتخبط والفشل التي تعاني منها منطقتنا، ومن المرجح أن يتم استيعابها تدريجيًا في المنظومة الاقتصادية الدولية، ما يخفف من أزماتها السياسية أو يؤجلها على الأقل. من جهة ثانية، وبعد إعادة دمج دول أوروبا الشرقية السابقة في الاتحاد الأوروبي وخروج إفريقيا جنوب خط الاستواء من عزلتها تدريجيًا، يحق لنا أن نتساءل إلى متى ستبقى منطقتنا تدور في دوامة مآسيها وما هي معوقات تقدمها ولماذا لا توجد بدائل ديمقراطية يمكن البناء عليها؟

وفي مسألة البديل، يبدو أن التعويل على أي قوة سياسية دينية خطأ شعبي غير مقصود بيد أنه يعدُّ خطيئة بالنسبة لـ "النخب"، ذلك أن شراهة هذه القوى للسلطة واستخدامها للمقدس وتبريرها لمختلف الوسائل من أجل الوصول إلى مبتغاها يضعها بديلًا غير مقبولٍ للاستبداد المدني. لكن الأمر قد يختلف بعد اكتمال بناء الدولة القانوني والسياسي، لتخضع كل القوى السياسية لمنطق الدستور وضوابطه.

ومع أننا تعلمنا الكثير خلال العِقد الدامي الأخير، إلا أن ذلك ما يزال غير كافٍ لتغيير مفاهيمنا السياسية المتوارثة التي تهادن الاستبداد، كإرث تاريخي بتجلياتٍ متعددة تطول مختلف جوانب الحياة، من العنف الأسري إلى أعلى المستويات السياسية، علاوة على ما تُفرزه مجتمعاتنا الراكدة من شخصيات سياسية لا ترقى إلى مستوى بناء الدول الحديثة القائمة على تطبيق شرعة حقوق الإنسان، كتكثيف لقيم إنسانية ودينية كانت وستبقى منجاة وعامل كبحٍ لغرائز التوحش في حياتنا ومدنيّتنا.