اهتزاز اليقين السوري

2022.04.10 | 06:51 دمشق

202246225933501637848827735016869.jpg
+A
حجم الخط
-A

تعدّ عودة الإنسان إلى لا يقينه ضربًا من العودة إلى جذوره البدائية، بلا إيمان يحميه من القلق الوجودي ومن مخاطر الحياة، وذلك حين يعجز أي وازع أخلاقي أو قانون وضعي عن مساعدته في تنظيم علاقاته بالآخرين وتكيفه مع الواقع. في مثل هذه الحالات، قد يلجأ الشخص إلى حلولٍ غير عادية، منها أن ينهي عذاباته دفعة واحدة، من خلال قتل النفس أو الانتحار، الأمر الذي يحتاج إلى المزيد من الشجاعة أو المعاناة من اليأس المطبق، ومن منا لم تدفعه الضغوط في لحظة ما للتفكير في مثل هذا الفعل، حتى لو تم استبعاده فورًا تحت ضغط التمسك بالحياة أو عدم جواز تدميرها.

وفي المجتمعات التي تفتقد إلى الاستقرار السياسي، وينوس سلوك أبنائها بين الخضوع للسلطة أو التمرد عليها، لأنه لم يُسمح لهم أو لم يستطيعوا تنظيم شؤونهم من خلال علاقات مؤسساتية وقانونية، يمكن أن تنفرط العلاقات الاجتماعية كحبات السّبحة، وتتصادم المصالح بطريقة عشوائية يصعب التنبؤ بمآلاتها، وتنهار القيم الأخلاقية وتعجز عن بث روح القناعة عند المؤمنين بها. إنه مثال على واقع سوريا الحالي، الذي يختبر القدرة على التمسك بالحياة مثلما قد يفضي إلى تدميرها، وقد وصل الأمر إلى هذا الحد من العجز عن تأمين أبسط متطلبات الحياة المادية وما يتبعه من خراب روحي.

لقد تراكمت الأهوال في سوريا وتنوعت، وتجلت بأبشع وأوضح صورة ممكنة، وقادت إلى زلازل اجتماعية لم ينجُ منها حتى أصحاب الإيمان واليقين

وُجد الإيمان للحد من التساؤلات التي لا جدوى منها؛ لأن لا إجابات حاسمة عنها ولا وقت للإنسان العادي للغوص في متاهاتها، فكانت المؤسسات الدينية وسيلة لشرعنة التكيف مع الواقع ومأسسته في حدود معينة، من أجل كبح مثل هذه التساؤلات وتوجيه الفرد نحو عالم الغيب أو لـ "السعي في مناكبها"، للتخفيف من التصادمات الاجتماعية المحتملة في كل لحظة بين المصالح المتناقضة للبشر، ولترجيح مصالح الأقوياء بالطبع. لكن ذلك يصبح في غاية الصعوبة في حالات الفوضى واستباحة الحياة بمزيد من التسلط والقهر والفقر، فقد تنهار القدرة على تسكين الآلام الروحية، بخاصة عند من يعي أسباب المظالم، وتنهار التوازنات التي يقوم عليها الإيمان واليقين، ما يدفع الأشخاص شديدي الحساسية والصدق إلى الاحتجاج بطرقٍ قد لا تخطر على بال.

لقد تراكمت الأهوال في سوريا وتنوعت، وتجلت بأبشع وأوضح صورة ممكنة، وقادت إلى زلازل اجتماعية لم ينجُ منها حتى أصحاب الإيمان واليقين، وتمت ملاحقة القيم الروحية إلى عقر دارها في أماكن العبادة، وطاردت الناس حتى لو اعتصموا ببيوت الله، المفترض أن تكون مؤتمنة على بث العزيمة والطمأنينة في نفوسهم ليتمكنوا من التكيف مع الواقع الأليم، ودفعت، أخيرًا، كاهنًا على إطلاق النار على نفسه في كنيسة باللاذقية.

لا تنفصل حادثة الانتحار هذه عما يحدث في سوريا من لهاث وراء لقمة الخبز الحاف، الذي يعدُّ نعته بالخبز نوعًا من الترف، في الوقت الذي تُفرض فيه الإتاوات على الطرقات من عصابات خارج القانون، ويهرب الحيتان بما جمعوه من ثروات انتُزعت من حلوق الجائعين، فماذا سيقول الكاهن لرعيته داخل الكنيسة أو للرعايا الهائمين على وجوههم في الشوارع، وهم يحدثون أنفسهم بكلماتٍ غير مفهومة؟

يعرف الكاهن بأن الانتحار خطيئة يحاسب عليها الرب، لكنه ربما قصد أن يطلق هذه الصرخة في المكان الذي تتكثف فيه الدلالات من على هيكل الكنيسة! كما عرف هذا الكاهن أنه يجب أن يوجه رصاصته إلى القلب، إلى المكان الذي تتكثف فيه المشاعر والعواطف كما يعتقد الناس، فالعقل هنا في خدمة القلب لا العكس، بينما قد تكون الحقائق في جهة لا تطولها يد الكاهن ولا يدركها إلا بقلبه.

لقد رأى الكاهن ما رآه الناس من ويلات وعذابات خلال هذه السنوات العشر العجاف ونيف، واكتشف معهم ما لا تنفع فيه المواعظ، وقد نفد ما في جَعبته أو لم يعد كافيًا لتطمين الرعية، فاختار الخلاص مقتديًا بالمسيح، لكن على طريقته هو بالذات، وقد سبق أن تمرد على الكنيسة بزواجه.

لا يحصل ما أقدم عليه الكاهن، وقد عُرف بمحبته وطيبته كما يُقال، إلا لصاحب قلب كبير، وفي يده الورقة التي كتب عليها ما من شأنه تبرئة الآخرين وعدم إثارة الشكوك، لقد اختار خطيئته بنفسه للاحتجاج من أجل تحقيق أقصى ما يمكن من الصدمة، ونجح في ذلك على ما يبدو.

تصرف الكاهن يمثل حالة جديدة كانت قد تجاوزتها المسيحية منذ عدة قرون في عدم الدعوة إلى العنف ضد الآخرين أو ممارسته، فكيف إن كان هذا العنف موجهاً ضد الذات نفسها

لم يستثن العنف، الذي تفشى في المجتمع السوري تحت ضغط الحرب والفاقة، أحدًا، ولو أن ضحاياه على درجات متفاوتة من التأذي، وانخرط فيه من يعتقدون بأنهم أوصياء على الآخرين، من خلال الزعم بأنهم مخولون بتطبيق القانون الوضعي أو تنفيذ تعاليم السماء. لكن تصرف الكاهن يمثل حالة جديدة كانت قد تجاوزتها المسيحية منذ عدة قرون في عدم الدعوة إلى العنف ضد الآخرين أو ممارسته، فكيف إن كان هذا العنف موجهاً ضد الذات نفسها، وهو ما تتفق عليه غريزة الحياة، والأعراف والأديان أيضًا، ولو أنها لا تُطبقه في أحيان كثيرة.

لا يكفي التبسيط في مثل هذه الأمور واعتبار القضية مجرد مرض نفسي – الاكتئاب وحسب، فهي صرخة احتجاجٍ مؤثرة ومُخطط لها، وقد جاءت بعد الاقتناع بأن لا خلاص ولا فائدة من الرجاء، في ومضة صادقة وطافحة بالعجز واليأس. وفي حال لم تثبت التحقيقات الجارية مفاجأة مقنعة، فإن الكاهن جورج ربما أراد أن يحتج على ضغوط الحياة بما لم يسبقه إليه أحد، من أجل أن تكتمل المأثرة، كرمز جديد وعصري للتضحية!