عسكر وحرامية واستبداد

2019.12.11 | 15:57 دمشق

images_2.jpg
+A
حجم الخط
-A

كلما فتحت سيرة الاستبداد العسكري/ السياسي الذي ابتليت به المنطقة العربية خلال السبعين سنة الأخيرة انبرى أحدهم لإبداء رأي جازم قاطع يتهم جمال عبد الناصر بأنه أوَّل من دشن تلك المرحلة، هكذا، دونما غوص في الأسباب العميقة لنشوء تلك الظاهرة، ودون ربطها بظروفها الموضوعية سواء ما تعلق منها بالأحوال المحلية لهذا البلد أو ذاك أو بالمناخ العالمي الذي ساد وأثَّر فيها.. ويبدو لي أن ربط الظاهرة بشخص معين يلبي حاجة سياسية محددة، ورغبة لدى بعضهم.. وانطلاقاً من هذه الرؤية وجدت أنه لابد من إعارة تلك الظاهرة، ظاهرة التسلط العسكري على منطقتنا اهتماماً أكبر يستند إلى واقع المنطقة ومستوى تطورها العام سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. ولست هنا ممن يدافعون عن أحد من العسكر واستبدادهم السياسي وبيروقراطية الدولة التي أنشؤوها، على الرغم من وجود تمايز ما فيما بينهم..!

وإذا كان لابد من إدانة هذه الظاهرة التي سادت المنطقة العربية فلا بد من القول بأن الظاهرة لم تأت من فراغ بل كان لها مناصروها أفراداً وأحزاباً.. ولكن، ومهما يكن من أمرها وأمر مؤيديها، فهي ظاهرة مرفوضة جملة وتفصيلاً إذ أوقعت المنطقة كلَّها في معضلات ومآزق كلفتها الكثير من الدماء والدمار، والأوجاع الإنسانية العميقة، واقتطعت من تاريخها زمناً كان يمكن أن تنتفع منه شعوبها وترتقي فيه.. وفي النهاية أخذت البلاد

هذه الدول حكمها جنرالات معظمهم قادم من أرياف بلده رافعاً شعارات قومية، منادياً بالوحدة العربية، وآخذاً على عاتقه تحرير فلسطين، وواعداً بتحقيق العدالة الاجتماعية، إن لم أقل الاشتراكية

التي وجدت فيها إلى حال من القتل والدم والهزائم المخزية والتخلف الشامل والفساد الذي لم يلتزم حدود الأمور المادية بل تسرَّب إلى الأرواح فلوَّث كلَّ ما كانت تكتنزه من قيم إنسانية ومبادئ أخلاقية..! والحديث هنا يطاول مصر والسودان وسوريا واليمن والعراق وليبيا والجزائر، وإن بنسب مختلفة، وبحسب الظروف المحيطة في كل بلد..! فمعظم هذه الدول حكمها جنرالات معظمهم قادم من أرياف بلده رافعاً شعارات قومية، منادياً بالوحدة العربية، وآخذاً على عاتقه تحرير فلسطين، وواعداً بتحقيق العدالة الاجتماعية، إن لم أقل الاشتراكية.. وإذا كان بعض هؤلاء قد انقلب على أنظمة فاسدة، أو متخلفة، فإن بعضها الآخر انقلب على أنظمة وطنية وديمقراطية ونامية على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تستأنس بمفردات الحضارة المعاصرة، ومن بينها سوريا إضافة إلى مصر رغم الفارق بينهما، فسوريا كانت جمهورية مستقلة كلياً، وحكمها وطني بالمطلق، بينما كانت مصر تعيش في ظل حكم ملكي فاسد، إضافة إلى نفوذ إنكليزي في الشأنين السياسي والاقتصادي، وأعتقد أن العراق كان يشابه مصر في بعض أوجهه، في حين خاضت الجزائر حرب تحرير أدت إلى استقلالها واستلام جبهة التحرير الجزائرية الحكم الذي لم تزل بقاياه حتى الساعة تحيط به ثورة شعبية لاتزال محكومة بنتائجها رغم تقدمها خطوات مهمة، واستطاع السودان أن يخطو خطوات مهمة في السير نحو حكومة مدنية تسعى للمصالحة مع ذاتها ومحيطها والعالم..!

لابد، لفهم تلك الظاهرة، من العودة قليلاً إلى الوراء لقراءة ما حدث في بلادنا وفي العالم، أعتقد بأن العالم مع إطلالة القرن العشرين ومع الحرب العالمية الأولى التي شكلت قطيعة مع العالم القديم وآذنت بعالم جديد ورغم أن بلادنا كانت ماتزال تعيش الظلام إلا أنها لم تكن خالية تماماً من بعض النخب التي اشتمت روائح ذلك العصر الجديد وآذنت ببداية نهضة مجتمعية أخذت أجنتها ترى النور في أواخر القرن التاسع عشر، أي مع بدء الإصلاحات التي سعى بها السلطان العثماني عبد الحميد للإبقاء على نظام لم يعد ممكناً استمراره، إذ انتماؤه إلى عصر ولّى زمانه مع خروج الرأسمالية من بلدانها الأساسية بحثاً عن أسواق جديدة لمنتجاتها، وعن اليد العاملة والمواد الخام الأقل تكلفة، وأتت معها عناوين نهضتها.. ومبادئ الثورة الفرنسية التي تتناقض مع فلسفة العهود الإقطاعية.. وتشكلت في السلطنة العثمانية الجمعيات والأحزاب تحت رقابة سلطانية شديدة وأخذت الشعوب المستظلة بالسلطنة العثمانية تفكر بالانسلاخ عنها، وجاءت الحرب العالمية الأولى وفي خضمِّها قامت الثورة البلشفية لتمنح تلك المقدمات نفحة جديدة إذ رفعت شعار "حق الشعوب في تقرير مصيرها" ففضحت معاهدة سايكس بيكو التي قسّمت بلاد الشام والعراق إلا أنَّ بزوغ عهد حرية الشعوب كان قد اتضح وأخذ يبحث عن رجاله ورواده.. وحمي وطيس الصراع على دول المنطقة وحولها..! وإذا كانت دول الاستعمار التقليدي قد أخذت تبحث بين صفوف العسكريين عن عملاء لها، فإنَّ الاتحاد السوفييتي المنتصر مع الحلفاء في الحرب العالمية الثانية قد اخترع ما يسمى بـ "الشرعية الثورية" التي

كانت النكبة عاملاً مساعداً للتمسك بالعسكرة طريقاً لاستعادة الكرامة المهدورة وهكذا أخذت الانقلابات العسكرية تتوالى يسبقها زخم الشعارات وحماسة الشباب

أفسحت في المجال للعديد من الضباط الشباب في الجيوش الناشئة حديثاً وبعضها مكون من بقايا جيوش كانت تحت سيطرة دول الانتداب أو صاحبة النفوذ وترافق ذلك كله مع قرار مجلس الأمن بتقسيم فلسطين ورفض العرب والفلسطينيين له وقيام حرب 1948 التي امتزج فيها الضعف بالتآمر بالوعود الأوروبية الكاذبة.. وكانت هذه النكبة عاملاً مساعداً للتمسك بالعسكرة طريقاً لاستعادة الكرامة المهدورة وهكذا أخذت الانقلابات العسكرية تتوالى يسبقها زخم الشعارات وحماسة الشباب.. ولم يكن هذا الوعي المتشكل الآن في العراق ولبنان وقبلهما في الجزائر والسودان قد وجد، إذ كان ذلك الشباب مفتوناً بالوحدة العربية وتحرير فلسطين. وما من أحد كان قادراً على القول: لا للعسكر.. أو كان يدرك بأن العسكر ليسوا بنَّائين، فالمشكلة لا تكمن بتدريب فصيل عسكري، أو إعطاء أوامر دونما مناقشة، بل المشكلة مرتبطة بالبناء المتكامل الذي يحتاج إلى علوم وخبرات لا تتأتى إلا بالتداول وحرية الأخذ والعطاء، يعني بالديمقراطية والمساواة. فروح البناء جماعية لا فردية يلتف حولها المنافقون والظلَّام واللصوص، وهذا ما حصل فعلاً في جميع البلاد التي شهدت حكم العسكر، رغم تباين تسلط فرديتهم وصدق شعاراتهم، وبشاعة المجازر التي ارتكبوها، وبحجم الأموال التي نهبوها.. ولعلَّ حافظ الأسد وابنه بشار قد تفوقا على الجميع في كل ما ذكر.. فإذا كان الأب قد اكتفى بعدد من المجازر والقليل من ملايين الدولارات وضعت باسم ابنه الذي خالفه الله فيما كان يعده له فإن "بشار" لم ترضه مجزرة في قرية أو مدينة، بل أصرَّ على تدمير سوريا ونهب مليارات دولاراتها كاملة.. ولا يزال بعضهم في الداخل يتوسل إليه بحل المشاكل التي تولدت عن سفك الدم والنهب والفساد.. وكأنه لم ينتبه لملاقاة تباشير فجر جديد خال من الدم والرصاص والخراب.. فجر ترسمه أجيال جديدة من نساء ورجال وشباب في لبنان والعراق والجزائر وقبل ذلك في السودان..!