طيّار الشوكولا "العم هزّاز الأجنحة"

2022.12.08 | 06:14 دمشق

طيّار الشوكولا "العم هزّاز الأجنحة"
+A
حجم الخط
-A

"كنت أعيش في منطقة قريبة من المطار في برلين خلال تلك الفترة. في أحد الأيام حصلت على مظلتين من الحلوى رمتهما الطائرة. كان على أخي أن يتسلق الشجرة ليحضرهما" كتبت الألمانية "دوروثيا سميث" متذكرة عملية "ليتل فيتلز" عندما كانت في العاشرة من عمرها. العملية التي ابتكرها وقادها الطيار الأميركي "غيل هالفورسن". وجرت فوق برلين المحاصرة بين عامي 1948 و 1949.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية، تم تقسيم ألمانيا إلى أربع مناطق سيطر عليها كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في الغرب، بينما سيطر الاتحاد السوفييتي على المنطقة الشرقية. برلين الواقعة في وسط المنطقة الشرقية، قسمت أيضاً إلى أربعة قطاعات، وتم تشكيل حكومة مؤقتة من القوى الأربعة "مجلس سيطرة الحلفاء" لإدارة وإعادة بناء المدينة.

بينما عمل الحلفاء معاً في البداية. بدأ الاختلاف حول مستقبل ألمانيا في الظهور. أوائل عام 1948، تصاعدت التوترات وتدهورت العلاقات بين الحلفاء الغربيين والاتحاد السوفييتي. خلافات حول أنواع الحكومات التي سيتم إنشاؤها في أوروبا ما بعد الحرب (العملة، الإيديولوجيا، خطة توحيد ألمانيا). إثر إعلان الحلفاء عن خطط لإنشاء عملة موحدة لألمانيا الغربية، باستثناء برلين. أغلق السوفييت، الذين شعروا بفقدان السيطرة، جميع الطرق البرية التي تربط غربي ألمانيا مع برلين. لتغدو المدينة جزيرة معزولة بما فيها من سكان وقوات للحلفاء، وسط منطقة تخضع لسيطرة السوفييت بالكامل.

لتجنب قيام حرب عالمية ثالثة، كانت الخيارات محدودة. اختار الحلفاء إقامة جسر جوي لإيصال المؤن لمليوني ألماني يعيشون في غربي برلين. كان على الطائرات إيصال 1534 طن يومياً لإبقاء المدينة على قيد الحياة، هذا الرقم لم يكن يشمل الفحم والوقود. في 26 حزيران/يونيو هبطت أول طائرة في مطار تمبلهوف في برلين، معلنة بدء العملية العظيمة القادمة. أطلق الأميركيون عليها اسم (Operation Vittles). كان هناك مطاران فقط في بداية الجسر الجوي هما تمبلهوف وجاتو. خلال فترة وجيزة تم إنشاء الثالث، وهو مطار "تيغيل". العملية استمرت 15 شهراً، لحين إعادة فتح الطريق البرية ثانية.

كان غيل هالفورسن أحد طياري الجسر الجوي الأميركيين. اهتم هالفورسن إضافة إلى عمله طياراً بالتصوير الفوتوغرافي. في أيام إجازته غالباً ما كان يذهب لمشاهدة معالم برلين وتصويرها. في أحد أيام تموز/يوليو 1948، وكان يصور الطائرات التي تقلع وتهبط في مطار تمبلهوف، رأى نحو ثلاثين طفلاً مصطفين خلف الأسلاك الشائكة المحيطة بالقاعدة الجوية. فذهب إليهم وراح يتحدث معهم.

أخرج من جيبة قطعتي "علكة" وقدمها لهم، قام الأطفال بتقطيعها إلى قطع صغيرة وتقاسموها. عدد من الأطفال لم يحصلوا على "العلكة، ومع ذلك لم يتذمروا. تأثر هالفورسن لعدم حمله المزيد ليقدمه لهم. وعد الرجل الأطفال أنه في اليوم التالي سيكون لديه ما يكفي من العلكة لهم جميعاً، وسوف يسقطها لهم من طائرته. يروي غيل أن أحد الأطفال سأله: لكن، كيف سنعرف أنها طائرتك؟ أجاب بأنه سيهز جناحي الطائرة عندما يصبح فوقهم. تذكر الطيار أنه قام بتلك الحركة سابقاً ليتعرف عليه والداه في مدينته بولاية "يوتا"، عندما مر بطائرته فوق المدينة، بعد حصوله على رخصة الطيران لأول مرة عام 1941.

بعد أن قام هالفورسن وطاقمه بإيصال الإمدادات الرسمية المعتادة، ألقوا مظلات الحلوى فوق الأطفال المنتظرين

في تلك الليلة ، قام هالفورسن ومساعده ومهندس الطائرة، بتجميع حصصهم من الحلوى في ثلاثة طرود. في اليوم التالي وجد أن الطرود كانت ثقيلة. من أجل ضمان عدم إصابة الأطفال، صنع ثلاث مظلات من المناديل القماشية، وربط بها حصص الحلوى. بعد أن قام هالفورسن وطاقمه بإيصال الإمدادات الرسمية المعتادة، ألقوا مظلات الحلوى فوق الأطفال المنتظرين. قاموا بتلك الإنزالات أسبوعياً لمدة ثلاثة أسابيع. في كل أسبوع، كان عدد الأطفال المنتظرين عند سور مطار تمبلهوف يزداد كما لاحظ هالفورسن.

علم الجنرال "ويليام تونر" قائد القاعدة بما يفعله هالفورسن فطلبه إلى مكتبه. اعتقد الطيار الشاب أنه سيتلقى عقوبة على تصرفه الفردي دون إذن. كانت المفاجأة أن الجنرال طلب توسيع العملية، وأطلق عليها اسم "ليتل فيتلز"، التي بدأت بشكل رسمي في 22 أيلول/سبتمبر 1948. نمت عملية تزويد أطفال برلين بالشوكولاتة والعلكة بسرعة، أولاً بين أصدقاء هالفورسن، ثم انتقلت إلى السرب بأكمله.

مع وصول أخبار عملية "Little Vittles" إلى الصحافة الأميركية، بدأ الأطفال وصانعو الحلوى من جميع أنحاء الولايات المتحدة بالمساهمة في الحلوى وتجهيز المناديل. بعد شهرين لم يعد بإمكان هالفورسن مواكبة كمية الحلوى والمناديل التي يتم إرسالها من جميع أنحاء أميركا. قامت الطالبة الجامعية "ماري كونورز" من مدينة شيكوبي بولاية ماساتشوستس، بتولي مسؤولية تنسيق المشروع على المستوى الوطني، وعملت مع الجمعية الوطنية لصانعي الحلوى لإعداد الحلوى وربط المناديل.

بفضل الدعم، كان طيارو ليتل فيتلز، يسقطون الحلوى كل يوم. وكان الأطفال في جميع أنحاء برلين يتناولونها، مرفقة أحياناً بالأعمال الفنية البسيطة مع رسائل الدعم. أصبحت طائرات الحلوى الأميركية تُعرف ألمانياً باسم قاذفات الزبيب (Rosinenbomber). بينما أصبح هالفورسن معروفاً بالعديد من الأسماء المستعارة بين أطفال برلين، منها العم هزاز الأجنحة وطيار الشوكولا وغيرها.

تلقى العم هالفورسن آلاف الرسائل من الأطفال الألمان معظمها ما زال محفوظاً في أرشيف مركز التنسيق في مدينة شيكوبي. من الرسائل اللافتة في الأرشيف، كانت رسالة كتبها أطفال منطقة "ليتشنغادا" في برلين: "عزيزي طيار الشوكولا. نحن أطفال الصف الثالث فئة (A) في مدرسة Lichtenrade، سمعنا الكثير من الأشياء الطيبه عنك. نحن أيضاً لدينا طلب خاص. ألا يمكنك تأمين بعض المظلات لنا؟ سنكون سعداء بذلك".

طفلة أخرى كتبت له تشير إلى مواصفات منزلها ليرمي لها الحلوى "إنه المنزل الذي سطحه قرميد أحمر، وفي فسحته الكثير من الدجاجات البيضاء". طفل كتب له بعد تناول الشوكولا، ولم يكن قد عرفها من قبل: "حسناً فعلت أنك لم ترمها في مناطق البالغين، وإلا فكانوا سيأخذونها".

المؤسف أن العملية توقفت قبل إنهاء الجسر الجوي بشهور. نتيجة احتجاج روسي بأن إسقاط الحلوى ينتهك اتفاقية عدم الدعاية الموقعة بين الدول الأربع. كان الطيار ومنسقو الحملة والمتبرعون يتصرفون بدوافع نبيلة. ولكن هل كانت أميركا الرسمية كذلك؟ بالتأكيد لا. كانت فعلاً تستفيد من الدعاية، وهذا ما يمكن لحظه بوضوح حين نعلم أكثر عن السياسة الأميركية في ألمانيا، وخصوصاً عند بناء جدار برلين عام 1961. والموقف السري لحكومة الولايات المتحدة الذي يتناقض تماماً مع ما هو معلن. وهذا موضوع آخر سأعرج عليه قريباً.

في عام 1994، أقنع القوات الجوية بالسماح له بإسقاط قطع الحلوى فوق البوسنة والهرسك، وكرر الأمر مرة أخرى في سماء كوسوفو عام  1999، وكان عمره قد اقترب من الثمانين

تشير التقديرات إلى أن عملية "ليتل فيتلز" أنزلت أكثر من 23 طناً من الحلوى، بواسطة ربع مليون مظلة صغيرة. حصل هالفورسن على الكثير من التكريم والعديد من الجوائز العسكرية والمدنية في بلده، بما في ذلك ميدالية الكونغرس الأميركي الذهبية. في عام 1974 منحته ألمانيا وسام "الصليب الأكبر" وهو أعلى وسام في الدولة. تم تسمية العديد من المدارس الألمانية باسمه، وكثيراً ما ظهر على شاشات التلفزيون الألماني، غالباً برفقة بالغين ممن تلقّوا مظلات الحلوى التي ألقاها عندما كانوا أطفالاً.

توفي غيل هالفورسن في منتصف شباط/فبراير من هذا العام 2022 بعد أن عاش أكثر من مئة سنة، قضاها وهو يكرر فعلته. في أيلول/سبتمبر عام 1989، أقيم احتفال بالذكرى الأربعين للجسر الجوي. شارك هالفورسن مع فريق تلفزيوني من برنامج "صباح الخير أميركا" بالاحتفال.

قاد طائرة وألقى الحلوى على أطفال برلين مرة أخرى وهو بعمر 69 عاماً، كان من بينهم أحفاد أولئك الذين قدم لهم الشوكولا قبل أربعين عاماً. في عام 1994، أقنع القوات الجوية بالسماح له بإسقاط قطع الحلوى فوق البوسنة والهرسك، وكرر الأمر مرة أخرى في سماء كوسوفو عام  1999، وكان عمره قد اقترب من الثمانين.