صراع الهويات الفرعية في مباريات كرة القدم

2023.01.18 | 06:17 دمشق

صراع الهويّات الفرعية في مباريات كرة القدم
+A
حجم الخط
-A

يتسبب الاحتقان الهُويّاتي في الدول والمجتمعات المركبة ذات الجماعات البشرية المقموعة، بخلق واعظ نفسي-سياسي يُسير السلوكيات، والتي تجد في مباراة رياضية إحدى الفرص للتنفيس والتعبير عن تلك الهويّات، قد تصل لحدِّ الاقتتال في أثناء المباراة داخل الملعب وخارجه. مع ذلك غالباً ما ينتقل المشاهدون/المتابعون لمباراة كرة القدم، المختلفون بهوياتهم، من التنافر إلى التآلف في غالب مباريات منتخبهم الوطني مؤجلين هويّاتهم الفرعية لصالح هويّة المنتخب العام الذي يفترض به أنه يمثل كل الشرائح الشعبية والقومية. لكنه الشعور الذي يختفي ما إن تتسبب السلطة/الدولة بأفعال تؤدي بحياة كتل بشرية، أو تتسبب بالمزيد من الضواغط والمواجع والتمييز بين أبناء البلد الواحد، وتتطور السلوكيات الحادّة في أثناء الأزمات والانشقاقات المجتمعية والاقتتال الداخلي والثورات، لتتوقف الهويات المختلفة عن النظر إلى المنتخب على أنه رمز للهويّة الجامعة.

الشغب الرياضي تمثيل سياسي هوياتي في مباريات محددة

تحولت الرياضة وكرة القدم تحديداً، لإحدى تجليات صراع الهويّات ومحركاتها. ولا يمكن القول إن الرياضة لا علاقة لها بالسياسية، فهي مقولة صادمة في مجال تحليل سلوكيات الجماهير في أثناء مباريات بين فرق تحمل هويّات متنافرة. فالمباريات المحلية بين الفرق المنتمية إلى خلفيات هويّاتية متباعدة أو متحاربة رمزياً أو سياسياً، هي المباريات التي ترمز إلى محركات الخصام الهوياتي على الصعيد الفردي والجماعي. فالمناصرون -في الدوريات المحلية على سبيل المثال- لا يجدون في تشجيع ناديهم شكلاً اعتباطياً خالياً من الانتماء، إنما رمزٌ للمواجهة والتحدي كهويات خاصة في وجه الآخر. لذلك فصراع الهُويّات على مدرجات الملاعب أو تجاه أندية ومنتخبات محددة، هو مؤشر على وجود قضية عميقة في وعي المشجعين المنتمين إلى هويّات مسحوقة في مناطق سكناهم.

ووفقاً للمشاهدات أو من نلتقي بهم حيث نتنقل في حياتنا، فإن الغالبية يحصرون تشجيعهم الرياضي، للنادي التابع لمحافظتهم فحسب. وهي في عمقها ترميزٌ إلى حيث جذر الصراع الهويّاتي في الدول المركبة تجاه أندية من محافظات أخرى مدعومة كونها مقربة من السلطة. وما حالات الشغب الكثيرة في مباريات محددة لأندية /الجهاد-الجزيرة- عفرين-الفتوة/ ضد أندية الساحل السوري خاصة /القرداحة، جبلة، تشرين/ أو فرق العاصمة كنادي الجيش.. المدعومة سياسياً واقتصادياً وأمنياً من السلطة التي هي نفسها القامعة للهويات الفرعية القومية أو المختلفة معها وإن من ضمن نفس الانتماء الهويّاتي، الموجودة في المناطق الحدودية أو الأطراف، هو خير دليل على ذلك، ومؤشر لانحياز الانتماء السياسي ضمن المحافظة وعبر الرياضة ضد الفرق في باقي المحافظات "المدعومة"، كونها على صلة بالسلطة أو يتمتع بمزايا لأسباب معينة، وتالياً تنقسم الهويات الرياضية إلى متصارعة ومتضادة بين الأندية المحلية خارج أو ضمن المحافظة/المدينة نفسها تبعاً لقربها أو بعدها من دوائر القرار السياسي.

 وهي رسالة شعبية توكيدية بصوت مرتفع للانحياز لهوية معينة، وتتمكن معها الوسائل الكاملة لتحريك العاطفة التي تؤثر على عمل الهويّات. ليكون شغب الجماهير في المدرجات أو بين اللاعبين أنفسهم هي اللغة السائدة في تلك المباريات. وهو شغبٌ قائم على ضمير الــ"نحن" ضد الـــ"هم"، وتظهر مع الشعارات التأجيجية  المدى الدلالاتي لصراع الهويّات الذي وصل إلى ملاعب كرة القدم. فالشتائم والشغب التي تطغى على مباريات معينة أكثر من غيرها لا تبتعد أبداً ولا تنفصل عن الوضع السياسي والانتمائي بين منطقتي الفريقين. هذا الشعور الذي يحرك الأفراد الموجودين في الملعب أو خلف شاشات التلفزة هو عبارة عن سجل موزع بين نوعين، أولهما الشتائم المثقلة بالمعنى السياسي، حيث يرمز إلى مخاوف وحيّف هويّاتي تحرك الجماعات البشرية التي تجد في الملاعب أو ما حولها، أحد أفضل الفضاءات للتعبير عن ما يحملونهم من ردات فعل سياسية أو اقتصادية وتراكمات مختلفة، والثانية: منطق التشجيع القائم على استخدام كل وصمة أو ألفاظ للتأثير على نفسية وقيمة الخصم، وهي رسالة هوياتية اجتماعية. وفي الوقت الذي تشكل ألوان النادي تجمعاً متناغماً ومتلاحقاً ضد الفريق الهوياتي الآخر، فإنه في لعبة أخرى بين نفس النادي ذي الجمهور المحتقن سياسيا-كالتي تم ذكرها- ضد فريق آخر لا ينتمي إلى حواضن أو فضاء السلطة، كفرق /الكرامة، إدلب، الطليعة، المجد، حطين، الوثبة، الاتحاد، الحرية/..إلخ، تشكل تلك المباريات مجموعة عوالم اجتماعية متباينة في الغالبية العظمى من المرات، ولا تهدف سوى إلى متابعة المباراة من دون تشنجات أو مواجهات أو شتائم، ويكاد أن يفتقد أيَّ هياج جماعي على المدرجات.

الملاعب مصادر الخطر المقبل

لكن الخطر الأكثر الذي لفت الانتباه هو حجم التحولات العمرية التي أصابت زائري مقاعد المدرجات فيما كانت تسمى سابقا "مدرجات شعبية" لتتحول إلى تسمية أكثر ترميزاً لحالة الخطر المقبل إذ تسمى "مدرجات شبابية" التي تجتمع فيها أعمار بين الــ11-30 سنة وتالياً بما يحملون من ضغائن وتشنجات وفوران من حالات الفقر والحرمان والضغط السياسي الذي يطلعون عليه عبر أحاديث من البيت، الحزب، وسائل التواصل الاجتماعي لتتحول الملاعب إلى مسارات للتنافس والصراعات الهوياتية بين الزمر المناطقية والاجتماعية المنتشرة على طول البلاد وعرضها، فمحاولات التأثير على اللعبة والتعبير عن رفض قرارات الحكم في مباريات محددة، عبر المدرجات تعود لأسلوب الحياة وحجم الرفاهية وحفظ حقوق الهويات الفرعية وغيرها من التفصيلات المهمة في حياة الهوية الجامعة. والمؤشر على حجم الخطر الكامن في فضاء الهويات الفرعية المقموعة، هو أن حجم الشغب المحلي في المباريات تقوم على حماسة الشباب وفي اللحظة التي تكون الهويات منزوية في مباريات معينة فإنها تنادي وتصرخ بحماسة وحمية شديدة في مباريات أخرى؛ لأن مشجعي الفرق التي تحمل انتماءات هوياتية مختلفة ومتمايزة عن بعضها، لا ينتمون لبعضهم ولا يرغبون بالعيش معاً بشكل متماهٍ مع الحالة السياسية السائدة.

 كما أن مشاعر الانتماء لهوية خاصة لنادي كرة القدم، هو نسخة عن خصوصية الهويّة الثقافية. فالميول القومية تلعب دوراً في الانتماء إلى فريق محلي ضد آخر، وخاصة حين يتولد ويكبر شعور وإحساس الوقوع ضحية قضية أو حدث سياسي، فتبدو مباريات محددة شكلا من أشكال التعارض بين أبناء القوميات المتخاصمة، أو بين المنتمين إلى أقلية أو أكثرية، وبين المنتمين إلى هويّة الحاكم والمنتمي إلى هويّة المظلوم، وتبدو فرصة ممتازة لإظهار طقوس الاعتراض والتشييد الهويّاتي الخاص، وتالياً يكون مؤشراً قوياً على دور الرياضة في فضح حجم تفاقم الخلاف والصراع بين الهويات.