البث المباشر
أثار الصراع الأخير بين عشائر دير الزور وقوات سوريا الديمقراطية "قسد" في شمال شرقي سوريا، قلق واشنطن طيلة أيام الاشتباكات العشرة ، والتي خلّفت عشرات القتلى والجرحى في صفوف الفريقين، وكادت تهدد استراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة فيما لو استمرت أكثر من ذلك.
ومنذ بدء الحرب بين العشائر و"قسد" في الـ27 من آب الماضي، وحتى توقف القتال في السادس من شهر أيلول الجاري، ظل المسؤولون العسكريون والدبلوماسيون الأميركيون صامتين إلى حد كبير، خوفًا من الانحياز العلني إلى أحد الطرفين اللذين تحتاجهما واشنطن بشدة للعمل معًا لمنع عودة تنظيم "الدولة" (داعش) مجدداً، وفق ما ورد في تقرير نشرته أمس السبت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية.
ويرى معدّ التقرير أن الصدام "العربي الكردي" بحسب وصفه، يهدد بإخلال التوازن الدقيق الذي أبقى تنظيم "الدولة" وغيره من خصوم الولايات المتحدة في مأزق. فمنذ عام 2017، تمكنت واشنطن من منع عودة (داعش) وكبح التوسع الإيراني والروسي، كل ذلك مع الحفاظ على بصمة عسكرية محدودة. وقد فعلت ذلك من خلال العمل مع قوات سوريا الديمقراطية، وهو تحالف غير مستقر من الشركاء المحفوف بالخصومات الداخلية. والآن، بدأت تظهر الشقوق الأولى في هذا التحالف.
بدء الصراع وطبيعة المنطقة
وبحسب التقرير، فإن قوات سوريا الديمقراطية نجت بصعوبة من أكبر ضربة لحكمها منذ تشكيلها في عام 2015. حيث تمكّن الآلاف من رجال القبائل العربية بطرد قوات سوريا الديمقراطية من عشرات المدن والبلدات في محافظة دير الزور شرقي سوريا، في اشتباكات خلفت ما بين 150 إلى أكثر من 350 قتيلاً.
ويقسم نهر الفرات دير الزور إلى نصفين شمالي وجنوبي، حيث تسيطر قوات سوريا الديمقراطية ونظام بشار الأسد على المناطق الأولى والأخيرة، على التوالي. النصف الشمالي هو الجزء الوحيد من سوريا الذي تسيطر عليه قوات سوريا الديمقراطية والذي لا يوجد به سكان أكراد أصليون، ما يجعل حكم المجموعة أكثر صعوبة من أي منطقة أخرى في البلاد.
شمالي دير الزور هو أيضًا موطن لأكبر عدد من حقول النفط والغاز السورية، ما يضعها في مرمى نظام الأسد وداعميه الإيرانيين والروس، الذين سعوا منذ فترة طويلة لاستعادة المنطقة واحتياطياتها القيمة من الطاقة.
كما أن تنظيم داعش تبدو أكثر نشاطاً في دير الزور من أي منطقة أخرى في البلاد، حيث يبتز مبالغ كبيرة من تجار النفط لتمويل نفسه، وينفذ هجمات شبه أسبوعية على جانبي نهر الفرات. كما أن موقع دير الزور على طول الحدود السورية مع العراق يجعل منها منطقة مهمة لكل من إيران والتنظيم، اللذين يستخدمان المنطقة لتهريب الأسلحة والأفراد عبر المنطقة.
ووسط هذه المنافسة الشديدة بين القوى الخارجية، شعرت القبائل المحلية في شمالي دير الزور منذ فترة طويلة بالتجاهل، وتتهم قوات سوريا الديمقراطية بتحويل الإيرادات من حقول النفط والغاز في المنطقة إلى المناطق التي يقطنها عدد أكبر من المكون الكردي.
ماذا تريد العشائر من الولايات المتحدة؟
وزعم التقرير أن التمرد القبلي الأخير كان محاولة من قبل الشيخ إبراهيم الهفل وآخرين للسيطرة على المنطقة و"إجبار الولايات المتحدة على الاعتراف بإنشاء دويلة عربية تتمتع بالحكم الذاتي في شمال دير الزور، ومستقلة عن قوات سوريا الديمقراطية ونظام الأسد.
ومع ذلك، وبصرف النظر عن الدعوات العامة لضبط النفس، حاول العسكريون والدبلوماسيون الأميركيون أن يبقوا بعيدين عن مشهد الصراع، لحاجتهم إلى الفريقين في المنطقة.
وكان معظم المشاركين في الأيام الأولى لانتفاضة العشائر، من أعضاء مجلس دير الزور العسكري، الذراع المحلي لقوات سوريا الديمقراطية، والذي يدير المنطقة نيابة عنها ويخضع لقيادة المجموعة ذات الهيمنة الكردية. ومنذ عام 2017، قاتلت قوات مجلس دير الزور تنظيم الدولة إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية وكان لا غنى عنها في مساعدة الأخيرة على تشكيل تحالفات في المنطقة. ومع ذلك، فإن الأحداث العنيفة التي وقعت بينهما تهدد بإفساد هذه الشراكة وتخريب علاقات قوات سوريا الديمقراطية مع المجتمعات المحلية.
اتهام العشائر بالتعاون مع نظام الأسد
ومنذ بدء القتال، يشير التقرير إلى أن قوات سوريا الديمقراطية زعمت بوجود تعاون بين قادة التمرد العشائري ونظام الأسد استعداداً لتسهيل سيطرة الأخير على شمال دير الزور. وتشير مصادر موثوقة إلى أن رئيس مجلس دير الزور العسكري أحمد الخبيل ربما كان يحمل مثل هذه النوايا.
ومع ذلك الحين، استخدمت قوات سوريا الديمقراطية هذه التهمة للإشارة إلى معظم أولئك الذين شاركوا في القتال، وكذريعة لمزيد من حملات القمع. ومنذ العفو العام الذي أعلنه مظلوم عبدي، ودعوته المزعومة بإطلاق سراح مقاتلي العشائر الذين اعتقلهم، أقدمت قوات سوريا الديمقراطية على اعتقال المزيد من زعماء القبائل الذين يُرجح مشاركتهم في القتال، بدلاً من إطلاق سراحهم.
وبحسب ما ورد في بعض التقارير، فقد التقى مسؤولون أميركيون في الأيام الأخيرة من الصدام، مع أقارب الهفل الذين يعيشون في قطر، في محاولة للمصالحة بين الجانبين. لكن حملة الاعتقالات الكبيرة التي تشنها قوات سوريا الديمقراطية، إلى جانب الدماء الهائلة التي أريقت خلال انتفاضة العشائر، تعني أن المنطقة لن تعود على الأرجح أبدًا إلى الوضع الذي تحقق عقب الإعلان عن هزيمة داعش في أواخر عام 2017.
ونتيجة لذلك، ستكون قوات سوريا الديمقراطية مقيدة بشكل كبير في قدرتها على منع عودة خلايا التنظيم ومنع نظام الأسد وروسيا وإيران من المطالبة بالاحتياطيات النفطية القيمة في دير الزور.
موقف أميركا "المستحيل"
ويصف التقرير تلك الأحداث بأنها "تضع الولايات المتحدة في موقف مستحيل"، إذ لا يمكن أن تصل المخاطر إلى أكبر من ذلك. فمنذ تدخلها في سوريا في أواخر عام 2014، بذلت الولايات المتحدة جهدًا أكبر لحماية شمال دير الزور من هجمات القوى الخارجية أكثر من أي منطقة أخرى خاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
ففي الـ7 من شباط 2018، قتلت الغارات الجوية الأميركية مئات الروس من مرتزقة فاغنر لدى عبورهم إلى المنطقة للسيطرة على حقل غاز كونوكو، الذي يستضيف الآن واحدة من أكبر القواعد الأميركية في البلاد.
ومهما يكن من أمر، فإن واشنطن ترفض التخلي عن سيطرتها على احتياطيات النفط والغاز في دير الزور وجنوب شرقي الحسكة، لأن القيام بذلك من شأنه أن يخاطر بتشجيع أطراف أخرى في الصراع السوري على السيطرة على المنطقة. وبالنسبة لداعش ونظام الأسد على وجه الخصوص، فإن السيطرة على هذه الحقول من شأنها أن تزيد بشكل كبير من حصول الطرفين على العملات الأجنبية، ما يمكنهم من التوسع وتهديد توازن القوى الإقليمي.
ويختم التقرير بالقول إنه على الرغم من التحديات العديدة التي تواجهها الولايات المتحدة في أماكن أخرى، يجب على واشنطن أن تكرس تركيزاً كافياً لسوريا والمنطقة الأوسع لضمان عدم ظهور انقسامات مماثلة بين قوات سوريا الديمقراطية والفصائل العربية الأخرى المتحالفة معها. إن الفشل في القيام بذلك سيخلق مساحة للخصوم لتقويض مكاسب واشنطن التي حققتها بشق الأنفس، على حد تعبيره.
