صراع الدب والحمار في متجر الخزف الأوكراني

2022.03.21 | 05:21 دمشق

2022-03-19t220252z_543123787_rc2x5t9m40pj_rtrmadp_3_ukraine-crisis-kramatorsk.jpg
+A
حجم الخط
-A

منذ طفولتي التي كنت أطرب فيها لسماع صوت دقات ساعة ( بيغ بن ) معلنة عن بدء برنامج "عالم الظهيرة" على راديو BBC التي كنا نعرفها بإذاعة لندن،  كنت أنصت لمحتوى الأخبار والتحليلات التي تعقبها وفي عمومها كانت تتركز على صراع بين دول وحكومات اصطفت وراء إحدى العظميين الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفييتي والذي كانت تصوره الأخبار صراعا بين الخير والشر وبطبيعة الحال كان يرى المصطفون وراء الاتحاد السوفييتي أنفسهم خيرا وعدالة اقتصادية للشعوب، والآخرون هم الشر المطلق، في حين يرى الآخرون أن المجتمعات الحرة المصطفة وراء الولايات المتحدة وترفل في الرخاء والرفاه والحريات هي الخير المطلق الذي يواجه إبليس الشيوعية القميئة الفقيرة المفقرة للشعوب.. وبطبيعة الحال كانت تخاض الحروب الساخنة التي وقودها الناس والحجارة بين أنصار تلك القوى فتدمر الدول وتصاب بالفقر والعوز والفشل المريع، أما الحرب بين الكبار فكانت باردةً لادماء فيها ولا بارود ولا جثث ولا نعوش، إلى أن سقط الاتحاد السوفييتي القميء بالضربة القاضية عام 1991.  

بلا أدنى شك لا يمكن اعتبار الحرب القذرة التي أعلنتها روسيا على جارتها اللدود أوكرانيا حربا عادلة لها أسبابها ومبرراتها القانونية، أو دعما وانتصارا لحقوق فئة من الأوكرانيين تم انتهاكها وممارسة الظلم والبطش على أصحابها.. هي بالقطع حرب توسعية لاستعادة مجال حيويّ لروسيا سبق أن فقدته بعد أن تهاوى اتحادها السوفييتي بداية تسعينيات القرن الماضي، كانت قد حاولت استعادته بلعبة انتخابات - تشبه ما يجري عادة في "جمهوريات الديمقراطيات الشعبية" - زمن الرئيس فيكتور يانكوفيتش الذي أسقطته ثورة شعبية في شباط من عام 2014 بعد تزويره نتائج الانتخابات فكان أن ردت روسيا باحتلال القرم في آذار بعد أقل من شهر على فشل عميلها وسقوطه.

لم تدّع روسيا وقبلها الاتحاد السوفييتي قط أنها تتدخل في دولة ما دعما للديمقراطية وحقوق الإنسان.. ربما تزعم دعم "الشرعية" وربما تقول بمواجهة عملاء "الإمبريالية" لكنها أبدا لم تتوارَ خلف شعارات الديمقراطية أو حقوق الإنسان، فهي تعرف نفسها أنها دولة سلطوية منذ حكم القياصرة  وتعرف أن هذا المكياج وذاك البريستيج لا يليق بها أو بمعنى أدق لا يناسب صرامة ملامحها القميئة.  

احتلال بودابست عام 1956 لم يكن إلا وأدا مبكرا لفكرة الديمقراطية التي داعبت خيال المجريين وتعزيزا لسلطوية موسكو على ما تعدّه مجالا حيويا لسلطانها الإمبراطوري – السوفييتي في مواجهة الإمبريالية!

وكذلك ربيع براغ عام 1968 كان أيضا وأدا للآمال التي بشّر بها الرئيس التشيكي ألكسندر دوبتشك عندما وعد شعبه باشتراكية أكثر إنسانية وبالإصلاح الديمقراطي خلال عشر سنوات والسماح بحرية الأحزاب والصحافة.

لم تدّع روسيا وقبلها الاتحاد السوفييتي قط أنها تتدخل في دولة ما دعما للديمقراطية وحقوق الإنسان.. ربما تزعم دعم "الشرعية" وربما تقول بمواجهة عملاء "الإمبريالية" لكنها أبدا لم تتوارَ خلف شعارات الديمقراطية أو حقوق الإنسان، فهي تعرف نفسها أنها دولة سلطوية منذ حكم القياصرة 

موسكو كانت دائما – وستبقى - داعما أبديا للحكومات السلطوية البوليسية، هكذا دعمت على الدوام اليساريين الفيتناميين والكوريين والصينيين والأفغان والكوبيين وكل الحكومات السلطوية اليسارية في أفريقيا وأميركا اللاتينية لأنها خصم دائم لفكرة الديمقراطية، وهي في جانب من الحرب التي تخوضها الآن في أوكرانيا تسعى لإجهاض التجربة الديمقراطية فيها.

على الوجه الآخر يحق لنا أن نتساءل: متى دعم الغرب والولايات المتحدة - التي طالما تغنّت بالديمقراطية وبقيم حقوق الإنسان ورسالة الحريات – الساعين للديمقراطية من شعوب العالم وأين فعلت ذلك؟

كل ماتستحضره ذاكرتنا المجهدة ليس فيه تدخلٌ أو دعمٌ أميركي أو غربي نحو تحوّل ديمقراطي في بلدان العالم الثالث من أفغانستان إلى العراق إلى سوريا إلى مصر إلى كل دول العالم العربي ليس ثمة ما يشير إلّا إلى دعم مطلق للحكومات السلطوية الدينية منها والعسكريتارية في المنطقة.. حتى في دول أميركا الجنوبية التي تعدّها واشنطن حديقتها الخلفية كانت الولايات المتحدة داعما مهما للديكتاتوريات وللانقلابات العسكرية فيها، وعلى النهج نفسِه فإن مختلف دول الغرب الفاعلة كفرنسا لم تدعم إلا الانقلابات العسكرية والنظم السلطوية في أفريقيا مثلا، ومنهم من سكت وبلع لسانه عن كل الجرائم والانتهاكات التي ترتكب بحق المطالبين بالحريات والساعين نحو الديمقراطية في مفاضلة مفضوحة بين مصالحه الاقتصادية ومصالح الشعوب في التحول الديمقراطي  وصفقة اليمامة بين بريطانيا والمملكة السعودية مثال مفجع على ذلك.  

ما يحصل في أوكرانيا اليوم هو بالقطع ليس دفاعا عن الأمن القومي الروسي، ولو قبلنا هذا المبرر فنحن نشرعِنُ حق أي دولة تملك فائض قوة أن تحتل جوارها بزعم الدفاع عن أمنها القومي ما يلغي أيّ أمل بالاستقرار العالمي.. وهو في المقام الآخر ليس الهدف منه كما يزعم الغرب تعزيزا لمسار ديمقراطي في ذاك البلد الذي أصابته لعنة الجغرافيا وظلم التاريخ فوجد نفسه محل صراع على المجالات الحيوية بين قطبين عالميين .

في صراع الدب الروسي والحمار الأميركي داخل متجر الخزف الأوكراني، وحدهم الأوكرانيون من يدفع حتى الآن فاتورة هذا الجنون كما دفع السوريون قبلهم فاتورتهم المرتفعة، وعندما يدرك المتصارعون أنه لا بدَّ من حلّ يكون المتجر قد تحطم بكل ما فيه وعلى من فيه  .