شهر تموز يغلّي السوريين في الكوز

2020.07.29 | 00:01 دمشق

thwrt-ywlyw.jpg
+A
حجم الخط
-A

رويدكم أيها القراء الأعزاء المولعون بأحاديث السياسة.. سآتي، خلال هذا الحديث، على ذكر الأحداث السياسية الكبرى المؤثرة في حياة السوريين التي يصادف وقوعها في شهر تموز. ولكن دعوني أشير، أولاً، إلى أهمية شهر تموز في الحياة الاجتماعية..

كما تعلمون؛ يشكلُ الفلاحون والعاملون في القطاع الزراعي نسبة لا يستهان بها من الشعب السوري، ومع ذلك تكاد معرفتهم بشهر تموز أن تقتصر على المثل المسجوع المُعَبّر عن اشتداد الحر: في تموز بتغلي المَيّ في الكوز.

وهنا تظهر مفارقةٌ مصدرُها أن الفلاح السوري، في الواقع، غير معتاد على وضع الماء في الكوز - وهو أنبوب متطاول يشبه القمع - ولكنه، لدى تأليف المَثَل، اضطر لوضع (الكوز مقابل تموز) لإنشاء السجع، ولا شك أن السجع يساعد الناس على حفظ الأمثال وتداولها، إذ ليس من السهل حفظ المثل لو كانت صيغته: في تموز يغلي الماء في الطنجرة!

والحقيقة أن البلاد السورية ليست حارّة، ولذلك يستفظع الإنسان السوري بلوغَ الحرارة في بعض أيام شهر تموز أربعين درجة! وعندما يذهب لأداء فريضة الحج يدرك أن بلادنا معتدلة جداً بالقياس إلى الحجاز، وغيرها من بلدان الخليج العربي..

روى لي الصديق الأديب نور الدين الهاشمي نادرة بطلُها يدعى "دُرّي الحمصي" ذهب إلى الحج في شهر تموز، قبل حوالي خمسين سنة، وكانت الخدمات التي تقدم للحجاج آنذاك ضئيلة، وطبعاً لم يكن هناك مكيفات تعطي هواء بارداً كما هو الحال اليوم. وكان الحجاج يتوضؤون بأباريق مصنوعة من التنك، الواحد منها له (زَلُّومة) ملتحمة بجسد الإبريق بمادة القصدير، وعندما عاد "الحاج دُرّي" إلى حمص، وبينما كان جمع من الناس يسلمون عليه، إذ قال أحدهم: اليوم شوب! فضحك الحاج دري وقال باستخفاف:

- "هون، في حمص، شوب؟! ورحمة أبي لما كنا في مكة شفت بعيني زلومة الأبريق كيف انفك لحامها ووقعت ع الأرض من قوة الشوب"!     

في 23 تموز 1952 وقع في مصر الشقيقة انقلابٌ عسكري أطلقوا عليه اسم "ثورة الضباط الأحرار"، أطاح بالحكم الملكي، وأعلن مصرَ جمهوريةً ذات نهج قومي اشتراكي، وأدى الانقلاب إلى ترسيخ قائد المجموعة البكباشي جمال عبد الناصر زعيماً محلياً، وخلال سنوت قلائل تحول إلى زعيم قومي عروبي.

بدأت الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مصر، بعد 23 تموز، بالصعود، والازدهار، وأصبح معظم المصريين (والعرب) يتعاملون مع الوضع على أنه ثورة.. ومع ذلك، في سنة 1958، فاجأ المفكرُ التنويري الشيخ خالد محمد خالد زعيمَ الأمة العربية من المحيط للخليج عبدَ الناصر بقوله:

- "مع الأسف يا ريس، الثورة كانت خطوة إلى الوراء في مجال الحريات العامة وحقوق الإنسان"!

المهم؛ وسواء اتفقنا، أو اختلفنا حول تسمية ما جرى في 23 تموز انقلاباً أو ثورة، فإن الحكم الفردي الارتجالي الناصري قد ذهب بمصر وسوريا والأردن إلى هزيمة عسكرية ماحقة في سنة 1967، ترافقت مع خسارة أراض شاسعة من أراضي الدول الثلاث، والقدس، وأسهم في إخفاق مشاريع الدول الوطنية المستقلة (باستثناء تونس إلى حد ما)، وأوصل الدول العربية إلى توطيد أركان الديكتاتوريات المحلية..

كان عبد الناصر شخصية محبوبة بالفعل، والمصريون (عدا الإخوان المسلمين طبعاً) أمسوا يحبونه أكثر، لا سيما أنهم كانوا يرون الشعوب العربية كلها تلهج باسمه، وهذا، بظني، هو السبب الذي جعله يتمسك بالسلطة إلى آخر يوم في حياته، مكرساً ثلاثةَ أنواع من الشخصية الرئاسية هي: القائد الضرورة- القائد المعبود- القائد إلى الأبد.. وقد تلقف هاتيك الصفات معظمُ رؤساء الجمهوريات العربية الانقلابية، كمعمر القذافي، وصدام حسين، وحافظ الأسد، ووريثه القاصر، وعلي عبد الله صالح، وحتى حسني مبارك الذي تسلم السلطة في مصر إثر اغتيال محمد أنور السادات حاول ارتداء تلك الصفات مضيفاً إليها بند "القائد الذي يورث الحكم لابنه".

كان عبد الناصر هو الوحيد الذي استقال من الرئاسة صادقاً، ومنسجماً مع نفسه، إثر هزيمة 1967، (قلده علي عبد الله صالح، فيما بعد، ولكنْ كاذباً) إلا أنَّ المفروض به أن يستقيل سنة 1961، حينما أخفق مشروعه الوحدوي.. حيث أصر السوريون على التخلص من سلطة الوحدة التي أدت إلى إلغاء الحياة السياسية، وتكريس الديكتاتورية الأمنية بقيادة عبد الحميد السراج، إضافة إلى ضرب البرجوازية الصناعية، وسلبها أملاكها تحت مسمى التأميم.

بالعودة قليلاً إلى الخلف، نجد تحولاً كبيراً قد جرى في تاريخ سوريا ومنطقة الشرق الأوسط بمجملها ابتداء من يوم 24 تموز 1920، فالحلم الذي دفع ملك الحجاز الشريف حسين بن علي للتحالف مع الإنكليز في محاربة العثمانيين مقابل أن تُعطى له سوريا ليقيم عليها مملكة عربية أُجهضت تماماً بدخول القوات الفرنسية بقيادة الجنرال غورو.

ولتفصيل ذلك يقول التاريخ أن الأمير فيصل بن الحسين دخل، في تشرين الأول 2018، دمشقَ على ظهر جواد أصيل، واستقبل بالترحاب، وأقام دولته على سوريا (عدا الساحل الذي كانت تتمركز فيه فرنسا)، بسلاسة منقطعة النظير، وفي 8 آذار 1920 أعلن استقلالَ سوريا بوصفها مملكة مستقلة، ونَصَّبَ نفسه ملكاً عليها.

تقول سيرة فيصل أنه كان رجلاً محترماً، ولم يلجأ إلى العنف خلال حكمه الذي استمر 22 شهراً، حتى إن بعض أعوانه نصبوا مشنقة عند باب السرايا، ولكنها لم تستعمل، وخلال مدة وجيزة أزيلت..

اعتمد فيصل على رجال وطنيين محترمين مثل يوسف العظمة وإبراهيم هنانو ورشيد طليع وآل البكري بدمشق.. ولكن هذا كله لا يمكن ليشفع له، ولا لوالده، أمام قرار الدولتين العظميين آنذاك بريطانيا وفرنسا تقاسمَ دول المنطقة (ومن ضمنها سوريا الداخلية بالطبع) فيما بينهما، بموجب اتفاقية سايكس بيكو التي أطاحت باتفاق الشريف حسين مع السير مكماهون الذي سبق انتهاء الحرب.

أخيراً.. هناك أسئلة كثيرة يمكن أن نطرحها في تموز 2020، حول ما جرى في تموزات سابقة..

- يا ترى لو لم يقع انقلاب الضباط الأحرار في مصر كيف سيجري تاريخ مصر والمنطقة؟

- ولو لم تأت فرنسا وتحتل سوريا؟

- ولو لم يثر سوريون كثيرون على فرنسا بقصد إرغامها على الخروج من سوريا؟

- لو أن السوريين يعرفون عن الأحداث التي تعصف ببلادهم، أكثر مما يعرفون عن غليان الماء في الكوز؟

- لو أن السوريين أخذوا من فرنسا ما لديها من أشياء إيجابية؟

- لو اعترف السوريون منذ البداية بحدود سايكس بيكو ودافعوا عن استقلال بلادهم بالطرق السلمية؟

أسئلة لا أمتلك، أنا أخوكم، إجابات عليها، ولكنني أراها مشروعة، وضرورية، وقد أكون مخطئاً.