شهادات من منزل خليفة داعش

2024.02.19 | 05:01 دمشق

شهادات من منزل خليفة داعش
+A
حجم الخط
-A

قبل أيام أجرت قناة «العربية» مقابلة مع الزوجة الأولى لأبي بكر البغدادي، أسماء محمد (أم حذيفة)، ولقاء مع ابنتهما أميمة. يلقي الحواران، ولا سيما الأول منهما، الضوء على التحولات التي أصابت إبراهيم عواد البدري وهو يخطو باتجاه خطبته الشهيرة في جامع النوري بالموصل، معلناً قيام الخلافة الإسلامية وتوليه شؤونها كأول أمير لتنظيم الدولة.

تتذكر أم حذيفة الشاب الذي تزوجته في عام 1999، طالب الماجستير في الجامعة الإسلامية. وتقول إنه لم يكن متشدداً قبل أن تعتقله القوات الأميركية لمدة عام في سنة 2004، ثم تعود فتطلبه في 2008 وتبدأ رحلة التخفي التي جرّ فيها أسرته وراءه. حتى إن التشدد الأمني لحماية حياته المستهدفة بشدة هو أهم ما تتذكره الأم والابنة، متقدماً على التعنت الديني الذي لم يلحظنه إلا داعماً لمواقف ذكورية لعبت برأس أبي بكر، وتنظيمه، بعد الغرور الذي أصابهم إثر التمدد الشاسع المفاجئ الذي حققوه في العراق وسوريا، وتوافد المتطوعين لمساندة مشروعهم من كل حدب وصوب.

استدعى البغدادي إلى بلاطه المتهالك زوجتيه السورية والشيشانية وابنه اليمان، ليُقتل الجميع معه عندما دهمته القوات الأميركية في عام 2019

تقول المرأة إن زوجها أبلغها، بعد إحدى مراحل اختفائه أيام «دولة العراق الإسلامية»، أنه اقترن بسجى الدليمي وطلّقها. ثم عاد فتزوج، قبل إعلان الخلافة، امرأة سورية من حلب هي عائشة قطماوي. تقول أم حذيفة إنها أرملة أحد قادة الفصائل، وإنها أم لخمسة أطفال منه، وإنها حازت مكانة مميزة لدى البغدادي. لكن ذلك لم يمنع زواجه، بعد إعلان الخلافة مباشرة، بثالثة هي العراقية نور ذات الأربعة عشر ربيعاً. وهي ابنة أمين سرّه ومتولي شؤون تنقلاته ومراسلاته وأمنه أبي عبد الله الزوبعي. وأخيراً تزوج الخليفة المعولم، في تموز 2015، شيشانية من رعاياه.

وفي الغضون سرّى عن نفسه بأكثر من عشر سبايا إيزيديات مررن بإحدى بيوته الكثيرة في الرقة والموصل. وزوّج ابنته أميمة، عندما كانت في الثانية عشرة، بمرافقه الذي سيُقتل بعد عامين، من دون رضاها أو استشارة أمها. وزجّ ابنه الأكبر حذيفة يافعاً في المعسكرات حتى قضى في إحدى العمليات عام 2017. واستدعى البغدادي إلى بلاطه المتهالك زوجتيه السورية والشيشانية وابنه اليمان، ليُقتل الجميع معه عندما دهمته القوات الأميركية في عام 2019.

تقول أم حذيفة إنها كانت بعيدة عن أمور التنظيم وأسراره، وإن زوجها لم يكن يناقش «أعماله» في البيت، ولكنها أظهرت اعتراضها على استعادة أحكام السبي في هذا العصر، مما دفعه إلى عرضها على قاض شرعي بشبهة إنكارها أحد أحكام الإسلام. وهو ما يبدو مختلفاً عن شهادة كانت قد أدلت بها سيبان خليل، الأسيرة الإيزيدية المحررة التي مرّت بمنزل الخليفة لمدة، وقالت إن زوجته هذه كانت يده اليمنى في شؤون داعشية وإنها كانت تحضر اجتماعات عليا.

وهو، على أي حال، ما ينفع فيه تقاطع هذه الشهادات التي باتت وافرة في الساحة العراقية. ومنها، مثلاً، لقاء كانت القناة نفسها قد أجرته مع محمد علي ساجد، عديل البغدادي من زوجته نور الزوبعي. وهو من دلّ جهاز المخابرات الوطني على مكان الظهور المصوّر الأخير لأبي بكر من مخبئه الحدودي، وكشف عن نيته التخفي في ريف إدلب حيث لقي حتفه.

لكن يبقى أن على الإعلامي ألا يتقاطع بشدة مع الشخصية الأمنية، وهو ما يبدو في كثير مع المقابلات مع قادة داعش وسواها من التنظيمات المتطرفة، ويقلل من أهمية هذه الحوارات المسوّرة ومن درجة الوقاية المرجوّة منها للمتلقي. صحيح أن هناك جهداً أمنياً، وعسكرياً، ضرورياً في محاربة داعش، لكن وظيفة الإعلام هي المعرفة التي يبني عليها كتّابٌ ومحللون أبحاثاً أشمل وأعلى درجة وأعمق رؤية.

ومن هنا تأتي قيمة الحصول على شهادات رافدة من الضفة الأخرى التي سيطرت على تركة داعش الجغرافية، وهي «الإدارة الذاتية...» التي تحتجز الآلاف من مقاتلي التنظيم وبعض أبرز قادته وجزءاً من أرشيفه. لكنها لا تبث إلا ما يفيد الوظيفة الأمنية المباشرة كاعترافات بعض عناصر الخلايا الجديدة أو المتجددة الذين قبضت عليهم في السنوات الأخيرة نتيجة تنفيذهم عمليات متفرقة بعد الانهيار الكبير في الباغوز في آذار 2019.

ولأن الأساطير تعيش أكثر من الوقائع فنحن في حاجة إلى كثير من هذه المقابلات والوثائق الداخلية لتخليص الظاهرة الداعشية من وهمين كبيرين حفَّا بها نتيجة الغموض في أثناء مرحلة قيام «الدولة». الأول ما أشاعته داعش عن تماسكها الداخلي وصلابة مقاتليها ودهاء قادتها وإخلاص شرعييها. وهو ما يتضح اليوم مقدار ما لعبه إعلامها في التسويق له ومدى بعده عن الواقع. مما أشارت إليه زوجة البغدادي عرَضاً بحديثها عن ظهور «الخوارج» بين المهاجرين الطاجيك والأذريين والليبيين، وفق ما وصل إلى معلوماتها المنزلية.

تقول أم حذيفة إنها لم تلاحظ أن زوجها قد حزن مرة على رحيل أحد رفاق دربه، لكن ردة فعله كانت القلق من أن إمكانية الوصول إليه كانت تصير أقرب يوماً إثر يوم

أما الوهم الثاني، المعاكس، فقد شاع بين خصوم التنظيم الذين فوجئوا بسرعة انتشاره وقوّته فتشكلت لديهم قناعة مؤامراتية ترى أنه «صنيعة مخابراتية» فبركتها أجهزة الدول لهذا السبب أو ذاك. وهو، أيضاً، ما بان خطله بعد كشف الغموض عن شخصياته الكبرى وسيَرهم ومصائرهم ومآلات عائلاتهم. من المؤكد، والطبيعي تماماً، أن أجهزة مخابرات محلية وإقليمية وعالمية، حاولت زرع جواسيس لها في هذا التنظيم الخطر ونجحت أحياناً؛ لكن هذا كان محدوداً بالنظر إلى وساوسه الأمنية العالية ودمويته وأخذه بالشبهة، بالإضافة إلى طابع الفوضى الداخلية المشار إليه أعلاه، الذي نقل أمراء مهمين إلى مواقع الجنود، وحوّلهم جغرافياً على نحو مباغت أحياناً بسبب الخلافات التي جعلتهم عرضة للتقارير.

تقول أم حذيفة إنها لم تلاحظ أن زوجها قد حزن مرة على رحيل أحد رفاق دربه، لكن ردة فعله كانت القلق من أن إمكانية الوصول إليه كانت تصير أقرب يوماً إثر يوم. أما عديله فيحكي عن توتره وهو يسمع أخبار انسحابات عناصره من المناطق وهو يهجس بالخيانة ويبحث عن الاختراقات ويحرص على إبقاء الحزام الناسف في متناول يده حتى عند النوم.