icon
التغطية الحية

شعب مصدوم ويفتك به الجوع.. أمراض نفسية تلاحق السوريين وتزيد همومهم

2023.12.22 | 09:48 دمشق

آخر تحديث: 22.12.2023 | 11:13 دمشق

مشفى ابن رشد للأمراض النفسية في سوريا
مستشفى ابن رشد للأمراض النفسية في سوريا
دمشق - سارة هاشم
+A
حجم الخط
-A

امرأة تفترش الأرض وتلتحف السماء، مشهد أصبح مألوفاً في شوارع دمشق، ورجل يمشي شبه عارٍ يكلم نفسه دون أن يسأله أحد عن حاله ومشكلته، وأطفال صغار كثر (بملابس فضفاضة) يتسولون بين السيارات المزدحمة في برد كانون القارس مثال عن الوضع المعيشي والنفسي المتردي في سوريا.

"لم يعد الوضع محتملاً" و"لا نجد قوت يومنا" و"الموت أحسن من هالعيشة" وغيرها من العبارات التي تلخص جزءاً من معاناة السوريين الذين يعيشون في مناطق سيطرة النظام السوري ويواجهون أزمات نفسية متفاقمة من الضغط والإجهاد والتفكير المضني في تأمين ثمن الخبز لأولادهم، في ظل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة التي يعيشونها وفصول الحرب التي لم تنته حتى الآن.

لا ينشغل السوريون عادة بالأمراض النفسية التي قد يعاني منها أي فرد منهم مثل الاكتئاب واضطراب القلق أو اضطرابات الأكل أو اضطرابات ما بعد الصدمة وغيرها، في حين قد تعد زيارة طبيب نفسي نوعا من "العيب" أو "السُبة" فيما بينهم، هذا إن اقتنع المريض بضرورة زيارة الطبيب والأهم إن كان يملك أجرته أيضاً.

وبعد 12 عاماً من الحرب والأزمات المتعددة، يواجه المجتمع تدهوراً بما يخص الحالة النفسية لكثير من الناس ما دفع العشرات والمئات للإقدام على الانتحار، وارتفاع معدلات الجرائم من قتل وسرقة بمختلف الفئات العمرية، وسط استمرار النظام السوري في فشله الاقتصادي والإصرار على قيادة البلاد نحو مزيد من الكوارث والأزمات.

ويواجه من يصاب بمرض نفسي في سوريا، نظرة سلبية من المجتمع وتفسيرات غير مفهومة مبنية على تصورات ثقافية قديمة وأفكار مسبقة مثل الجنون والسحر والحسد والإصابة بالعين دون التفكير بإمكانية التوصل إلى حل ينتهي بشفائهم مما يعانون منه إن عرضوا حالتهم على طبيب نفسي.

ويعاني نحو 4 بالمئة من سكان سوريا من أمراض نفسية شديدة، وبنسبة مشابهة على الأقل يعانون من اضطرابات نفسية متوسطة الشدة، و90 بالمئة من الشعب من حالات اضطراب لا تخضع للمراقبة، وفق تقرير مجلة الصليب الأحمر الدولية لعام 2019.

ورصد موقع "تلفزيون سوريا" عدة حالات تعاني من أمراض نفسية في سوريا، دون أن يكون لهم أي سند اجتماعي يساعدهم بالتغلب على مشاكلهم التي تسببت بها قلة مواردهم وصولاً إلى حد الجوع والعوز.

عامر.. اضطراب القلق

عامر أحد المصابين باضطراب القلق، بسبب الاعتقال الذي استمر لخمس سنوات متواصلة مع بداية الثورة السورية، ثم أطلق سراحة ليجد نفسه وحيداً بعد مقتل جزء كبير من أفراد عائلته بالقصف الذي استهدف منزلهم بريف دمشق.

وقال عامر لموقع "تلفزيون سوريا"، منذ عدة أشهر ومن شدة الآلام النفسية التي ترافقني نصحني أحد الأشخاص بزيارة طبيب نفسي، وبعد تردد زرته ووصف لي حالتي بأني أعاني من "اضطراب القلق"، وكتب لي دواءً حسن نوعاً ما من مزاجي العام ثم توقفت عن تناوله فازدادت حالتي سوءاً.

ولفت عامر إلى أنه يعاني من فزع وقلق مستمرين، ويلازمه فرط تفكير في كل شيء، فلا يستطيع أن ينسى أي يوم من أيام وليالي الاعتقال التي عاشها في فرع المنطقة العسكري المعروف بوحشيته.

وبيّن أنه كثيراً ما يعاني من كوابيس ليلية كلها تدور حول الاعتقال والسجن والتعذيب والصراخ فيستيقظ فزعاً من هول ما يراه في منامه.

وقال أيضاً: "دائماً خايف وما فيني استرخي وأشعر بالملل وفي توتر وعصبية دائمة، وما بقدر ركز بشي، يعني مالي مجنون بعرف حالي، لساتي مؤمن وبصلي وبصوم ومعتني بحالي بس في شي فوق الطاقة".

ليلى.. اكتئاب حاد

ليلى أم رامي، وضعها ليس أفضل من عامر، حيث تعيش حالة اكتئاب شديدة جداً، حيث أن زوجها مفقود منذ 9 سنوات ومن المرجح أنه معتقل، ذهب إلى عمله في الصباح ولم يعد منذ ذلك الوقت.

وقالت أم رامي التي تعيل 3 أطفال منذ غياب زوجها الذي كان يعمل في سوق الحريقة بدمشق، أن كل شيء صعب، لا تعرفين إلى أي حد تصل صعوبة الحديث عن مرض نفسي في سوريا.

وأضافت لا أحد يصدق أنني مريضة، أنا أعيش حالة صدمة كبيرة جداً، ومطلوب مني أن أكون قوية وأن أطعم أطفالي وأن أؤمن لهم احتياجاتهم في زمن لا يتعرف أحد علي، أهلي وضعهم أسوء، وعائلة زوجي ليس بيدهم حيلة.

وأشارت ليلى التي تسببت المعرفة الشخصية بها لحكاية قصتها لموقع "تلفزيون سوريا" أن الطبيب الذي زرته بدمشق، قال لي لا تخبري أحداً بزيارتي حتى لا تشعري بالإحراج أو الشفقة، حتى الطبيب النفسي يريد مني عدم الإفصاح عن مرضي لأن الناس حتى الآن لا تقتنع بوجود أمراض نفسية، رغم أننا كلما رأينا من أحد فعلا خاطئا نقول أنه مريض نفسياً.

ولم تستطع ليلى أن تكمل دراستها بسبب الأوضاع المادية لعائلتها فتزوجت وأنجبت وكانت تعيش حياة عادية "مستورة" كما تقول.

وبحسب ليلى فإن الطبيب قال لها: إنها تعاني من اضطراب اكتئابي مزمن، بسبب الفقد الشديد الذي حدث لي بعد غياب زوجي، وتحمل مسؤولية كبيرة وغياب الداعم والسند، والمشكلات المالية والضغوط الكبيرة الملقاة على عاتقي.

وتصف ليلى ما يحدث معها بأنه حزن مستمر وخواء وفتور عن أداء الأنشطة اليومية وغضب من كل شيء، وأحياناً ضرب الأطفال ثم حضنهم والبكاء معهم، مع الشعور بالفشل والبؤس، وعدم النوم وفقدان الشهية.

سوريا تعج بالمرضى النفسيين

وهناك حالات أخرى استطعنا الوصول لها، لكنها رفضت مجرد الحديث عن المرض النفسي، مؤكدة أن ذلك عارٍ عن الصحة وكل ما يقال عن زيارتهم للطبيب النفسي كذبة يخترعها من يكرههم.

في المقابل قال محمد عبد القادر، أحد الأطباء النفسيين، يقيم خارج سوريا، ويقدم خدمات مجانية غير معلنة عبر المعارف والأصدقاء لعدة مرضى نفسيين في دمشق وريفها، إن سوريا تعج بالمرضى النفسيين، ومعظمهم يعانون من "اضطراب ما بعد الصدمة" أو اضطراب القلق، والاكتئاب الحاد.

وأضاف عبد القادر أن القول "إن الشعب السوري مصدوم نفسياً"، هو تعميم خاطئ إلى حد كبير، رغم أنه قد يكون مصدوما من هول الأحداث التي جرت في البلاد هذا صحيح، لكن لا يمكن القول إن كل السوريين يعانون من أمراض نفسية، فهذا يقلل من التوصيف الدقيق للوضع ويحرم الكثيرين من حقهم في التشخيص الدقيق.

وبيّن قائلاً: أنا أتفق مع فكرة أن الشعب مصدوم بشكل عام، وأرى أن الشعب مدمر نفسياً، خصوصاً من يقيمون في مناطق سيطرة النظام السوري، نحن نتحدث عن 40 إلى 50 طبيب نفسي فقط، في بلد بقي في داخله أكثر من نصفه وهؤلاء يحتاجون على الأقل لأكثر من 10 آلاف طببيب نفسي.

ويرى أن الوضع في الشمال السوري بسبب وجود منظمات وفرق تطوعية اهتمت بالجانب النفسي خلال السنوات الماضية قد يكون أفضل ولكنه يبقى سيئاً ويحتاج إلى جهود أكبر.

ويعتقد الطبيب النفسي السوري، أن "السبب الأساسي وراء تدهور الوضع النفسي في مناطق النظام في السنوات الأخيرة، هو الضغط الاقتصادي وأزمات المعيشة وعدم القدرة على تأمين أبسط الاحتياجات، أزمة كورونا، قطع الكهرباء بشكل دائم، الشعور بالدونية للبقاء في البلد مقابل سفر الآخرين ونشرهم للصور والأطعمة وغير ذلك".

وتابع: أن "الناس لا تريد الاقتناع بأنها قد تكون تعاني من أمراض نفسية، وإن اقتنعت لا تملك أجرة الطبيب ولا ثمن الدواء، فأدوية الاكتئاب عموماً مرتفعة الثمن ولا تباع إلا بوصفة مراقبة بشكل كبير".

ونصح الطبيب عبد القادر أي شخص يعرف شخصاً يعاني من اكتئاب أو اضطرابات نفسية معينة بأن ينصحه برؤية طبيب نفسي أو معالج نفسي لأن "تفاقم الحالة دون أن ندري قد تؤدي بالشخص إلى الانتحار لا قدر الله".

وعدد حالات الانتحار المسجلة في مناطق سيطرة النظام السوري عام 2023 حتى بداية شهر 12، وصلت إلى 146 حالة انتحار بحسب الهيئة العامة للطب الشرعي بدمشق.