شركاء في صناعة المجزرة

2023.11.23 | 06:56 دمشق

آخر تحديث: 23.11.2023 | 06:56 دمشق

شركاء في صناعة المجزرة
+A
حجم الخط
-A

على مرأى من العالم أجمع ومسمع من الوجدان العربي والعالمي، يسقط وقع الصواريخ والقنابل على غزة وكأنه أمر عادي ومشروع وتقتضيه الضرورات الأمنية القصوى أيضاً.

يحدث هذا في وقت لم تتوانَ إسرائيل فيه عن إغداق أموالها في سبيل إيصال الأخبار لمن هم ليسوا من المهتمين بالشأن السياسي وغير المتابعين لأخبار الشرق الأوسط، إذ أنفقت الخارجية الإسرائيلية نحو ثمانية مليارات دولار في منصة يوتيوب لدعم روايتها حول الحرب الأخيرة التي تشنها على غزة، بهدف تجييش مشاعر مؤيديها وإفقاد المقاومة الفلسطينية مصداقيتها وجماهيريتها، ولأهداف أخرى تتعلق بالدعاية لجيشها وسلاحها.

ساهمت وسائل التواصل والمنصات الرقمية بطريقة أو بأخرى في تغيير الرأي العام وتأجيجه من أجل الطعن بالقضية الفلسطينية، لكن ذلك وحده لم يكن ليشكل أثراً لو لم يكن الضخ الإسرائيلي مكثفاً وممنهجاً لدحض السردية الفلسطينية ولإضفاء طابع من الشرعية على العدوان الأخير الذي أتى رداً على عملية طوفان الأقصى.

بحسب موقع غوغل لشفافية الإعلانات، فقد نشرت الخارجية الإسرائيلية في موقع يوتيوب نحو 100 مقطع دعائي للترويج للرواية الإسرائيلية التي تعتمد في جوهرها على ربط حماس بالإرهاب

يمكن القول بأن وسائل الإعلام المرئية العالمية منها والعربية في أحيان أيضاً هي شريك فاعل ومؤثر في عملية تأليب الرأي العام ضد مؤيدي القضية الفلسطينية، مع العلم أنها تستهدف شريحة لا يُستهان بها من الجيل السابق للجيل الحالي، فقد ساهمت بقوة في نشر وسرد المظلومية الإسرائيلية وكانت منبراً لتسول التضامن العالمي مع وضع الأمن الإسرائيلي الذي تزعزع بسبب العملية الأخيرة.

بحسب موقع غوغل لشفافية الإعلانات، فقد نشرت الخارجية الإسرائيلية في موقع يوتيوب نحو 100 مقطع دعائي للترويج للرواية الإسرائيلية التي تعتمد في جوهرها على ربط حماس بالإهاب، مدعية أن المقاومة الفلسطينية هي جزء من تنظيم الدولة الإسلامية.

تستطيع وسائل الإعلام اليوم والمنابر غير الرسمية منها حتى، من صانعي محتوى ووسائل تواصل اجتماعي أن تعيد تشكيل المفاهيم لتصوغها بشكل يتناسب مع أجندتها ويتفق مع التجاذبات السياسية والمالية المحيطة، فيتشابك مفهوم الضحية والجلاد في فكر كثيرين ممن ليسوا على دراية كبيرة بالأمر، أو ممن ينساقون خلف عواطفهم بسبب المحتوى المرئي الموجَّه في وسائل التواصل، ويخضعون لأفكار مسبقة وأحكام غير عادلة مبنية على اعتبارات غير موضوعية، وهو أمر اختبرناه بالتجربة وأثبتته الوقائع في بلادنا سواء في سوريا وفلسطين والعراق وليبيا أو اليمن.

في الوقت الذي تنفق حكومة الكيان الإسرائيلي الأموال الطائلة على الإعلان لدعم أجندتها وجذب المؤيدين لشرعنة موقفها الدولي، لم يستطع العالم العربي بحكوماته الوطنية _وفق ما تدعي_ أن يساهم في إدخال المساعدات الإنسانية التي تتعلق بالحفاظ على الحياة من ماء ودواء أو أكفان مثلما قرروا في اجتماعاتهم الطارئة المتكررة.

يعتقد الرأي العام في أوروبا اليوم أن إسرائيل دولة قائمة من حقها دحر الإرهاب وتأمين الحماية الكافية لمواطنيها، ويتناسون أنها مجرد كيان محتل حط على أرض ليست له، وأنهم قرروا جمع شتاتهم من العالم بعد أن لفظهم العالم الغربي ذاته، وتجمعوا في أرض لا تربطهم فيها لغة ولا تراث وأسسوا كيانهم على العنصرية الدينية فحسب، وربما ليس من المبالغة القول إننا نواجه في المجتمع نفسه من يجد أن للكيان الصهيوني الحق في عمليات العدوان الأخيرة لدحر الإرهاب، وهم وإن كانوا كذلك فهم يدعمون الرواية في الخفاء خجلاً وخوفاً، ولكن على قلتهم فهناك من يظهر منهم على شاشات التلفزة ووسائل الإعلام الإسرائيلية مشيداً بقدرتهم على تحدي الجماعات الإرهابية المقاومة وتفانيهم في  قيادة الهجوم ضدهم نيابة عن العالم.

استغلت إسرائيل في حملاتها الدعائية صوراً للأطفال والمسنين بقصد تجييش المشاعر وكسب التعاطف، وركزت في إعلاناتها على أن مواطنينها الأبرياء تُزهق أرواحهم على يد المتشددين والإرهابيين من حماس والمقاومة الفلسطينية، في وقت لم تحظ فيه السردية الفلسطينية بأي دعم أو ترويج ولم تخصص أموال معينة لصناعة إعلانات موجهة للرد على المحتوى المضاد، وبالتالي لم تستقطب أي تعاطف شعبي من الرأي العام العالمي إلا ممن هم مهتمون بالقضية ويدعمونها منذ القدم.

تخفي المعايير والسياسات التي تتبناها منصات مثل فيسبوك ويوتيوب أو غيرها المنشورات التي لا تدعم الرواية الإسرائيلية، وتحجب المعلومات التي قد تؤثر في الرأي العام بما لا يتناسب معها وفق خوارزميات ومنهجيات متبعة

يصبح التاريخ بهذه الطريقة جزء من حلقات مسلسل خيالي ويفقد مصداقيته، لكن ذلك بحد ذاته يعد هدفاً بعيداً أيضاً لعمل تلك السياسات الإعلامية التي تبناها بعض المؤثرين ووسائل الإعلام، أو التي تروج لها وتنشرها لوبيات وتحالفات التواصل الاجتماعي التي تُعد بإداراتها وسياساتها شريكاً رئيساً في عملية التضليل.

تخفي المعايير والسياسات التي تتبناها منصات مثل فيسبوك ويوتيوب أو غيرها المنشورات التي لا تدعم الرواية الإسرائيلية، وتحجب المعلومات التي قد تؤثر في الرأي العام بما لا يتناسب معها وفق خوارزميات ومنهجيات متبعة، أو تبعاً لمصالح رأس المال بالحصول على نسبة تمويل عالية للمحتوى المرئي ـ والمقروء، فيما تقطع التواصل بين أصحاب الرؤية الواحدة أو الفكر المتقارب بحيث لا تصل معلومات كثيرة سواء عن الجرحى تحت الأنقاض أو المساعدات أو الشهداء عن ذوي العلاقة ممن يمدون يد المساعدة بأشكالها، كذلك تخفي مشاهد العنف التي يتسبب بها العدوان بدعوى مخالفة السياسات العامة للمجتمع لكنها تدعم محتوى يبين وجها آخر للعدوان، في مقابل إمدادات مالية طائلة تضخها ماكينة المعلومات الإسرائيلية لمنع الحذف والحجب والاحتيال على معايير المجتمع المفترضة.

هل ساهم المجتمع العربي في ذلك بشكل أو بآخر إذاً؟ لا بد أنه أخطأ بأن ترك نفسه ليكون مستهلَكاً للمحتوى المفروض عليه، ولم يفكر في صناعة محتوى حقيقي ذي مغزى يضاهي المحتوى المضاد، وربما لم يتمكن من تحقيق ذلك لأسباب فنية ومالية بسيطة تتعلق بطبيعة الدول البوليسية وسيطرتها على الفكر العام ومحاولة طرد الفكر الحر بطريقة أو بأخرى، أو لأسباب اجتماعية جعلت العمل في المجالات الفكرية والسياسية من الصعوبة بمكان في بيئاتنا المختلفة، لما تقتضيه طبيعة الحياة الاقتصادية التي تضطر الإنسان للعمل لتأمين قوت يومه، خاصة بعد أن تراجع الوضع الاقتصادي في العقد الأخير لتشكل الظروف المحيطة طوقاً خانقاً أردى أحلام الشعوب العربية قبل أن تولد.