مع انطلاق آخر موجات التهجير القسري من درعا إلى الشمال السوري، وبعد تمكن حلف النظام من السيطرة على آخر جيوب الثورة المتبقية بعيداً عن التجمع الأضخم للثورة في الشمال السوري، لم يعد ممكناً التهرب من طرح السؤال الأهم الآن حول مصير إدلب والأرياف المحيطة بها من محافظات حلب وحماة واللاذقية.
وفي سياق المعطيات الميدانية التي صبّت بشكل متسارع لصالح النظام في العامين الماضيين، مستغلا اتفاق "خفض التصعيد" في أستانا، والذي منح النظام وحلفاءه فرصة ذهبية للهجوم على كل منطقة على حدة؛ يبقى التكهّن بمصير إدلب أمراً معقداً مرتبطاً بالحقائق على الأرض من مقومات للصمود، وتفاهمات بين الدول المعنية بالملف السوري عموماً.
اتفاق "خفض التصعيد" في أستانا، الذي منح النظام وحلفاءه فرصة ذهبية للهجوم على كل منطقة على حدة
وزاد من مخاوف الثوار في إدلب ما شاهدوه من تخلّ صريح وعلني من الولايات المتحدة التي كانت الطرف الضامن في اتفاق خفض التصعيد في الجنوب السوري مع روسيا والأردن، ومحدودية الوجود العسكري التركي في إدلب متمثلاً بنقاط المراقبة التي مهمتها فقط رصد ومراقبة الاتفاق على الأرض.
سيناريو الاستمرار باتفاق خفض التصعيد
وفي سرد للسيناريوهات المحتملة حول مصير إدلب، لا مانع من البدء في السيناريو الأقل خطورة وكلفة، وهو استمرار العمل باتفاق خفض التصعيد برعاية روسية تركية، إلا أن هذا الوضع لن يستمر في حال حصل لفترة طويلة بحكم أن نهايته مرتبطة بمسار أستانا الذي تحول من مسار عسكري لفرض وقف لإطلاق النار بين الفصائل المسلحة وقوات النظام، إلى مسار تمكن من الالتفاف على جنيف وبات الآن مصب تركيز تركيا وروسيا للوصول إلى حل سياسي يُرسم بأيادٍ روسية.
إلا أن أي حل سياسي قد يتم التوصل إليه يتطلب من تركيا القدرة على فرضه على الفصائل الموجودة في الشمال، وقبل ذلك كله إيجاد حل لملف "هيئة تحرير الشام" وباقي المجموعات ذات الطابع الجهادي، وهو الأمر الذي تعهّدت به تركيا ولم تقم بأي خطوة تجاهه.
وفي هذا السيناريو قد يحصل ما يخشاه البعض من مقايضة مساحة محددة من إدلب مقابل دخول القوات التركية إلى تل رفعت شمال حلب، باتفاق يرضي الطرفين، وفي هذه الحالة ستكون منطقة الساحل وجسر الشغور وريفي حماة الشرقي والشمالي تحت تهديد ما يترتب على مثل هذا الاتفاق، ما يمنح روسيا سيطرة على الطريق الدولي حلب – دمشق، وعلى منطقة الساحل وجسر الشغور التي تشكل تهديداً قائماً على حلف النظام، خاصة بوجود عدد كبير نسبياً من المقاتلين الأجانب (الحزب الإسلامي التركستاني) الذين تعتبرهم روسيا إرهابيين.
قد يحصل ما يخشاه البعض من مقايضة مساحة محددة من إدلب مقابل دخول القوات التركية إلى تل رفعت شمال حلب
وما يرجّح سيناريو المقايضة هو الاحتمال الكبير لقبول تركيا به في ظل عدم تكافؤ الأدوات على الأرض لدى الدولتين، حيث لا يمكن مقارنة العدد والتسليح غير المحدود والتنظيم الموجود لدى قوات النظام والميليشيات الإيرانية، مع تسليح وتنظيم الفصائل العسكرية في إدلب، والتي شهدت اقتتالاً فيما بينها خلال الأعوام الثلاثة الماضية، أدى إلى انهيار العلاقات بين الفصائل الكبرى.
وتبدو الرغبة التركية باستمرار اتفاق خفض التصعيد في إدلب واضحة، في حين أنها أيضاً مرتبطة بشكل كبير بمدى التفاهمات الثنائية التي قد تحصل بين الأطراف الثلاثة المعنية (تركيا – الولايات المتحدة – روسيا)، فتركيا تحاول الإبقاء على توازن دقيق ومعقد بين اللاعبين الآخرين، بحكم حاجتها لكل منهما للوصول إلى حل مناسب لها في ملفين منفصلين هما إدلب وشمال شرق سوريا، تسعى أيضاً روسيا للحفاظ على علاقتها مع تركيا التي ضمنت لها الفصائل في إدلب من القيام بأي تصعيد في الوقت الذي هاجم فيه النظام 4 مناطق وسيطر عليها.
وفي هذه اللعبة السياسية الثلاثية تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية الخيارات الأوسع، باعتبار أنها ليست مضطرة لتركيا بحكم أن ملف إدلب لا يعنيها، وذلك على العكس بالنسبة لتركيا المضطرة للتعامل مع الولايات المتحدة للوصول إلى حل لإنهاء التهديد المتمثل بوحدات حماية الشعب التي تتهمها تركيا بالتبعية لحزب العمال الكردستاني، إلا أن أي تقارب أمريكي تركي واضح سيؤدي إلى انهيار التفاهمات التركية الروسية، وينعكس الأمر ميدانياً بمعركة يطلقها الروس في إدلب.
إلا أن أي تقارب أمريكي تركي واضح سيؤدي إلى انهيار التفاهمات التركية الروسية، وينعكس الأمر ميدانياً بمعركة يطلقها الروس في إدلب.
السيناريو الدموي
ومن المحتمل أن تجد روسيا نفسها قد فشلت في الوصول إلى تفاهم بعيد مع تركيا حول إدلب بشكل خاص، وحول طبيعة سوريا الجديدة عبر الحل السياسي، الأمر الذي سيدفع بها إلى إعلان حرب شاملة على إدلب، بحجّة وجود "التنظيمات الإرهابية" التي لم تتمكن تركيا من القضاء عليها، وزاد على الأمر تنامي وجود تنظيم الدولة في إدلب مؤخراً، وهنا يُطرح السيناريو الأسوأ.
فبعد سيطرة النظام على الغوطة الشرقية وجنوب دمشق وريف حمص الشمالي والآن درعا، وفي حين لم تحافظ الفصائل التي تم تهجيرها إلى الشمال على كيانها العسكري، بعد ترك معظم المقاتلين سلاحهم؛ تمكّن النظام من تفريغ عشرات الآلاف من الجنود والميليشيات التي كانت تطبق الحصار على هذه المناطق، والتي ستلعب دوراً مفصلياً في أن تخوض روسيا بهم معركة إدلب، في حال قررت الفصائل المقاومة، الأمر الذي يتطلّب من روسيا والنظام نفسَاً طويلاً للمعركة.
وحول خيار المقاومة الذي ستلجأ له الفصائل في إدلب في محاولة مكررة لما فعلته باقي المناطق، كنوع من تفادي التهم التي قد تتوجه لها في حال عدم المقاومة، بالإضافة إلى الفهم الذي تم ترسيخه في الحالة السورية، بأنه لا بد من الدخول في حرب وتحمّل خسائرها للوصول إلى طاولة المفاوضات.
وتعود مآلات هذا السيناريو إلى عدد من العوامل الرئيسية في أي معركة، ابتداء بالتجهيز لها عبر تحصين وتدعيم الجبهات وخلق خطوط دفاع خلفية، ما يمنح الفصائل مزيداً من الوقت في الدفاع ويقلل الخسائر البشرية في صفوفها أمام السياسة الوحيدة المتبعة من حلف النظام وهي سياسة الأرض المحروقة.
التسليح والتذخير الذي تملكه الفصائل في إدلب فإنه يكفي للصمود فترة جيدة، لكنه مرتبط بشكل كبير بمدى تنظيمه وتوزيعه على خط الجبهة الطويل
أما التسليح والتذخير الذي تملكه الفصائل في إدلب فإنه يكفي للصمود فترة جيدة، لكنه مرتبط بشكل كبير بمدى تنظيمه وتوزيعه على خط الجبهة الطويل الممتد من ريف اللاذقية وحتى الراشدين غربي مدينة حلب، ما يتطلب تنسيقاً عالياً بين الفصائل غير موجود حتى الآن، وسيكون أقصى حالات التنسيق بين الفصائل هو القيام بهجوم على مناطق سيطرة النظام واستخدام تكتيك الهجوم بغرض الدفاع.
كما يرتبط الأمر بمدى جدية تركيا بمواجهة هذه المعركة عبر دعمها للفصائل في إدلب، مثل ما حدث من دعم بالعربات العسكرية المدرعة للفصائل العسكرية التي واجهت تمدد النظام في ريف إدلب الشرقي الجنوبي (منطقة شرق السكة) في بداية العام الجاري، وهنا يتوجب على تركيا موازنة الخسائر التي ستترتب عليها في مواجهتها غير المباشرة مع روسيا، ومن جهة أخرى ضرورة الحفاظ على هذه البقعة الجغرافية التي باتت تحتوي كل المطلوبين للنظام بتهم الإرهاب، لمنع حدوث موجات بشرية تقتحم الحدود التركية.
ويبدو من تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم أمس السبت، وتحذيره لروسيا في حال هاجمت إدلب، من انهيار ما سماه أردوغان "جوهر اتفاق أستانا"، الذي يعني فيه انهيار وقف إطلاق النار، فيما قد يُفهم بأنه تلويح بتصعيد قد يعود على روسيا بالهزيمة في حال وضعت تركيا ثقلها في معركة إدلب، وتكرار تجربة جيش الفتح الذي تمكن من السيطرة على كامل محافظة إدلب في وقت قياسي وكسر الحصار -ولو مؤقتاً- عن مدينة حلب عام 2016، رغم الثقل الروسي الذي كان حاضراً في تلك الفترة.
وفي حال تمكنت الفصائل من إحراج روسيا والنظام في هذه المعركة عبر امتصاص الهجمات البرية الأولى وإلحاق خسائر بشرية كبيرة في صفوف قوات النظام، فإن ذلك سيمنحها أوراقاً قوية قد تُطرح على طاولة مفاوضات تفرض توقيتها هذه الفصائل، ويتم التوصل فيها إلى تمديد وقف إطلاق النار، وانعكاس هذا النصر العسكري للثورة على أروقة السياسة التي قد نشهد فيها تغيراً ملحوظاً يُبعد السيطرة الروسية على ملف الحل السياسي.