سياسة كمّ الأفواه.. كيف انكشف زيف حرية التعبير في أوروبا؟

2023.12.08 | 05:55 دمشق

سياسة كمّ الأفواه.. كيف انكشف زيف حرية التعبير في أوروبا؟
+A
حجم الخط
-A

أن تكون عربياً فذلك يشكل لك نقمة لا في البلدان النامية فحسب، بل إنها قد تتبعك إلى أي مكان تشاء الذهاب إليه في دول العالم الحر، لأن الحرية هناك _وفق ما بدا_ تقتصر على جوانب معينة وبشروط محددة، ليس من بينها أن تكون عربياً أو مسلماً، ليصبح لزاماً عليك التقيد بضوابط الاندماج وتصبح بين ليلة وضحاها ملزماً بتطبيق أحكام ما يمليه عليك النظام السائد.

أما إذا كنت فلسطينياً فذلك وحده اليوم يكفي ليجعلك عرضة للترحيل والتهجير من طرف الدول التي منحتك _وفقاً لقوانينها حق اللجوء لأسباب إنسانية أو سياسية أو اجتماعية واقتصادية_.

لأنك وفقاً لحسابات اليوم أصبحت كائناً غير مرغوب بوجوده أو بسماع صوته في حال كنت ممن يدينون إسرائيل، أو كان رأيك أن من حق الفلسطينيين الدفاع عن أراضيهم في مواجهة أسلحة الاحتلال الهمجية.

قد تكون لاجئاً في دول أوروبا التي تصون دساتيرها المساواة بين أفرادها وتحفظ تشريعاتها الحقوق والحريات، فتتملك منك مشاعر الغضب، وتعتقد أن من حقك أن تعبر عن ذلك وفق آليات مشروعة تحمي الجميع وتضمن ممارسة حقوقهم بالتساوي، لكنك تكتشف أن ذلك محظور في حال كان غضبك انتصاراً لما يحدث في بلاد يموت فيها إخوتك وتهدم البيوت فوق رؤوسهم بأسلحة يسهم العالم أجمع في شرائها.

تمنع قوانين تلك البلاد عنك ممارسة حقوقك والتعبير عن مشاعرك، تسلبك حقك في الحزن على أهلك وتحظر تسمية موتاك بأنهم شهداء، لأنها تصورهم على أنهم قتلة ومجرمون وفقاً لسمات العالم المتحضر الذي يسعى بكل ما أوتي من قوة، كي يدحر الإرهاب ليحافظ على عالم يسوده الوئام ويعمه السلام.

في أواسط شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم أوقفت الشرطة الفرنسية الناشطة الفلسطينية مريم أبو دقة، بعدما أعطى مجلس الدولة الضوء الأخضر لترحيلها على خلفية انتمائها إلى "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" التي تثير حفيظة إسرائيل والاتحاد الأوروبي بسبب تصنيفها منظمة إرهابية وفقاً للوائحهم.

على شهرتها لم تكن "أبو دقة" الوحيدة التي هُددت بالترحيل، لقد اعتقلت الشرطة المحلية في الدول الأوروبية أعداداً كثيرة من الفلسطينيين الذين مارسوا حقهم بالتظاهر، أو من العرب المؤيدين للقضية الفلسطينية الذين رفعوا شعارات تندد بعنف الاحتلال وتطالب بعودة الأراضي الفلسطينية، كذلك منعتهم من التجمعات وحولت بعضهم إلى المحاكم وهددتهم بالترحيل من جراء دعمهم للإرهاب الذي يمارس على الكيان الإسرائيلي.

لقد أصبح سرد رواية مختلفة عن رواية الاحتلال بحد ذاته تهمة قد تجعلك تواجه عقوبات وتهديدات ونبذاً وتضييقاً، وباتت معاداة السامية الورقة التي يرفعونها في وجه العالم لإثبات مظلوميتهم ونشر سرديتهم عن الأحداث في عالم معد مسبقاً

الإرهاب الذي تقصده إسرائيل وغيرها هنا هو مجرد سرد الحقائق والمطالبة بوقف قتل المدنيين بحجج واهية وحروب مفتعلة، فالإرهاب مثلما يعرفه المجتمع الدولي هو أن تطالب بعودة الحق إلى أصحابه وترفض الاعتراف بالاحتلال، الإرهاب ومعاداة السامية تهمك الجاهزة بسبب رفضك الإذعان لاقتطاع الأرض، وتشويه تاريخها وإرثها الحضاري والديني.

لقد أصبح سرد رواية مختلفة عن رواية الاحتلال بحد ذاته تهمة قد تجعلك تواجه عقوبات وتهديدات ونبذاً وتضييقاً، وباتت معاداة السامية الورقة التي يرفعونها في وجه العالم لإثبات مظلوميتهم ونشر سرديتهم عن الأحداث في عالم معد مسبقاً لتصديق أنصاف الحقائق، ولا يضيره أن يكُذّب الصورة الحقيقية التي لا تشبه تلك التي يبرزها الاحتلال في تبريره هجماته العسكرية وفي روايته في المحافل الدولية أو في ترويجه ودعايته الكاذبة.

يعيد النظام العالمي اليوم تشكيل الرأي العام العالمي وفق ما يرى من زاويته الحادة، وتصبح التصنيفات الجديدة باباً آخر ينتج عنه الاصطفاف والتحزب، فإذا لم تكن معنا فأنت ضدنا لا محالة، عليك أن تلتمس العذر لإسرائيل في الدفاع عن نفسها أمام إرهاب المقاومة، وأن تدين منظمة حماس التي روّعت المدنيين الأبرياء من مواطني الاحتلال واختطفتهم وأسرتهم.

أنت فلسطيني إذن أو عربي؟ إن ذلك بحد ذاته أصبح يعد تهمة بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، عليك إذن التخفي أو التنكر بهيئة مواطن أوروبي يدين الإرهاب ويحزن على مواطني الكيان جراء الرعب الذي عاشوه منذ بداية طوفان الأقصى، وعليك أن تدرك أن حقوقك التي افترضتَ سلفاً أنك حصلت عليها بعد هروبك إلى بوابات العالم الحر لا تسمح لك بالتعاطف مع أبناء جلدتك.

منذ بدء الحرب على غزة غدت حرية التعبير والفكر التي تدعي الدول الأوروبية تبنيها، تبدو أوهى من خيط العنكبوت، وأصبحت قابلة للتفصيل والتكييف وفق مقاسات مختلفة بحيث تضم أشخاصاً وتنبذ آخرين، لكنها في الأحوال كلها تخوض اختباراً مفصلياً قد يؤثر على مستقبل البلاد في العقود القادمة.

لماذا تخاف تلك الأنظمة من الصوت الآخر إلى هذه الدرجة؟؟ هو السؤال المفصلي ربما الذي يفسر حملة القمع والاعتقال وخنق الأصوات المناهضة لإسرائيل

لا منجى من الاستبداد إذن.. وإنما تختلف حلته وهيئته في كل بلد عن الآخر، ومن كذبوا علينا وسرقوا أحلامنا ونحن نلهث لنصنع عوالم ودولاً نستحق الحياة فيها بإنسانية، ما لبثوا أن أشهروا سيفهم في وجهنا في أول اختبار حقيقي لمصداقيتهم، فالحرية لديهم هي أن تشبههم فكراً وقولاً وعقلاً وأن تسير في مساراتهم، لا أن يكون لك فكر حر يتعارض مع النظام الذي وضعوه، أو أن تفكر في محاولة زعزعة الأسس التي عملوا على ترسيخها في مجتمعاتهم وبذلوا جهداً في بنائها، بتصويرهم الوقائع على خلاف ما هي عليه كي يضمنوا ألا يشبّ القطيع عن الطوق فينكشف زيف ادعائهم ونفاق توجهاتهم عند أول محك.

لماذا تخاف تلك الأنظمة من الصوت الآخر إلى هذه الدرجة؟؟ هو السؤال المفصلي ربما الذي يفسر حملة القمع والاعتقال وخنق الأصوات المناهضة لإسرائيل، ذلك أن هذه الأصوات بدأت تلاقي أذناً صاغية من المجتمع الأوروبي الذي انضم كثيرون فيه إلى حملات المقاطعة للمنتجات الاقتصادية التي تدعم الكيان على سبيل المثال، وهو أمر تدرك الدول المعنية مدى جديته وتأثيره في حال انتشر وتوسع، ذلك أن الكيان الذي يدعي طوباويته أمام أبناء شعبه ويخدعهم باسم الدين، لن يستطيع الاستمرار في حال عدم دوران العجلة الاقتصادية التي تدعمه ويحكمها أصحاب رؤوس الأموال ذوو المصالح المشتركة.