سوريا ليست رفات جندي تُنبَش وتُسَلَّم لعدو

2019.04.08 | 00:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لم يُوًفَق نظام الأسد بعبارة توصيفية لِما حَدَث في سوريا بقدر ما وُفِق بعبارة "مؤامرة". صحيح أن عبارة كهذه ليست إلا سلاح كل عاجز أو خبيث عن تفسير حدثٍ جلل أو مصيبة تحل ببلد أو أمة؛ إلا أنها كانت الأدق في توصيفه وسرديته لما يتربص ببلد كان الصراع عليه أبديا. فاته- ولكن ربما عن عمد- أن يرى أنه أداة تلك المؤامرة، التي دمرت سوريا روحاً وبشراً وحجراً لعقود من الزمن لا تقلُ عن مساحة العقود التي خنق خلالها سوريا وأهلها أثناء حكمه.

كان على رأس المتآمرين إسرائيل، التي ما ارتاحت يوماً للإنسان السوري الحقيقي، والذي كلًفت منظومة الأسد بلجم وقمع أي قرار لديه لاسترداد حقه من الصهيونية، التي كانت المسؤول الأول عن بعثرة سوريا الشامية أساساً. كان نظام الأسد يعرف بأنه الخادم الأمين لذلك السرطان الإسرائيلي الذي ما شعر بالأمان يوماً طالما السوري بخير. مِن هنا أتت عبارة "رامي مخلوف" بأن /أمن إسرائيل سيكون في خطر إن تعرضت "سوريا الأسد" للخطر. ومن هنا كان هذا النظام جاهزاً أن يتحوّل، وعلناً، إلى الأداة القاتلة لسوريا الخطرة على الكيان.

لقد قالها كثيرون بأن إسرائيل ما كانت لتسمح لحزب حسن نصر الله أن يتدخل في الشأن السوري- وهي "تناصبه العداء" علناً، لو لم ترَ بأنه سيكون أداة هدم وقمع لذلك الخطر الداهم الذي بدأ عام 2011. على الأقل كانت استغلّت الفرصة واصطادته لحظات تحركه إلى الداخل السوري؛ وهي التي ما عجزت يوماً عن اصطياد، حتى الأفراد.

وعندما لم يقتصر التدخل على ميليشيات حسن نصر الله - التي أثبتت عجزها عن إنقاذ منظومة الاستبداد الأسدية - وعندما تطور الأمر إلى تدخل إيراني مباشر؛ كانت إسرائيل مرحبة بخطوة كهذه تزيد في الدمار دمارا. ذلك كان واضحاً رغم ادعاء إسرائيل وتذمرها من الوجود الإيراني في سوريا، ورغم استهدافه أحياناً؛ ورغم ادعائها أن إيران عدوها المبين. فمن أجل التغول بالتدمير والتخريب، ومن أجل ذر الرماد في العيون؛ كان لا بد يبهجها اقتراب إيران من "مناطق الفصل" التي أسستها عام أربعة وسبعين مع حافظ الأسد "المؤسس".

زاد في الطنبور نغما تدخل بوتين صديق إسرائيل الحميم، والمرتبط ربما روحياً بالمليون يهودي روسي الذين لا شك أنه قد ساهم يوماً بقدومهم من روسيا إلى إسرائيل. تدخل الرجل أيضاً لإنقاذ منظومة الأسد الحامية لحدود الكيان؛ تدخل وجرّب على أرواح السوريين وأرضهم أكثر من ثلاثمئة صنف من السلاح، كما هو ذاته قد صرّح.

المساهمة الكبرى للسيد بوتين تخليصه لمنظومة الاستبداد الأسدية من ترسانة سوريا الكيماوية إثر استخدام هذا السلاح على الشعب السوري ذاته

كانت المساهمة الكبرى للسيد بوتين تخليصه لمنظومة الاستبداد الأسدية من ترسانة سوريا الكيماوية إثر استخدام هذا السلاح على الشعب السوري ذاته. وبالمناسبة، وحسب مآلات الأمور، وتكشُف الحقائق لاحقاً، تبيّن أن تنسيقاً بين إسرائيل وبوتين وأمريكا (عبر سفير إسرائيل فيها) فد أنضجوا ترتيبات تسليم تلك الترسانة ثمناَ لجريمة ارتكبتها المنظومة الأسدية أداة المؤامرة على سوريا.

ليس تسليم رفات الجندي الإسرائيلي مؤخراَ عبر السيد بوتين إلا تفصيلاً واستكمالاً لخدمات بدأت تتكشف حول ارتباط منظومة الاستبداد بمحتل الأرض. اليوم نرقب أبواق تلك المنظومة وغضبها المكشوف على "غدر الروس بنظام الأسد"؛ فهذا هو بهجت سليمات /أحد أهم مفاصل هذا النظام/ يكتب مقرعاً الروس على استباحة سوريا وعلى "قلة أمانتهم" و"إهانتهم لسيادة" سوريا. يأتي ذلك بعد إخراج إعلامي تافه بأن "الإرهابيين" هم مَن نبش الجثة ونقلوها إلى تركيا التي سلمتها بدورها إلى إسرائيل؛ ليخرج بوتين في اليوم التالي ويفضح كل تلك المسخرة. واضح أن ما أزعج منظومة الاستبداد هو فضح بوتين لما جرى، وأن الروس هم مَن قام بالعملية بالتنسيق مع قوات الأسد ليقوم بدوره بتسليمها هدية لصديقه نتنياهو علّها تسهم باستمراره في السلطة في التاسع من هذا الشهر.

نعم إنها المؤامرة يا سادة؛ ولكنها مؤامرة عصابة تكفلت بحراسة أمينة لحدود الكيان المغتصب؛ بداية بتسليمه الجولان السوري عام سبعة وستين؛ ثم بالتوقيع على ما سُمّي بـ“فصل القوات" عام 1974 بحيث تكون حدود الكيان آمنة رسمياً؛ وبعدها في الجنوب اللبناني عبر القرار 1701، والقائم على الأمر شريكه حسن نصر الله عملاَ بحفظ وأمان حدود إسرائيل وبعبارة "بن غوريون" في مذكراته / إن الخطر على إسرائيل يأتي من الشمال/؛ وكان أن أمنت له منظومة الاستبداد ذلك مقابل كرسي السلطة الأبدي.

أي "مؤامرة" تلك التي ما زال نظام الاستبداد يتحدث عنها؛ وهو المؤامرة بعينها، وهو أداتها والمتعيٍّش عليها وعلى مفاعيلها؟!

أي "مؤامرة" إذن تلك التي ما زال نظام الاستبداد يتحدث عنها؛ وهو المؤامرة بعينها، وهو أداتها والمتعيٍّش عليها وعلى مفاعيلها؟! ولكن يبقى السؤال الأهم؛ إلى أين ستوصلنا تلك المؤامرة؟ قال "النظام “منذ البداية: /أحكمها أو أدرها/. ها هو دمّرَها، فهل أضحى شرطه الأول ساقطاً؟ وهل مازال هناك ما يدمّره؟ والجواب: ربما. فلم يستمر هذا النظام كل هذا الوقت إلا تحت يافطة "المؤامرة"، وتحت رعاية إسرائيل حصراً. هناك بلاد شهدت انتفاضات شعبية واهتزازات؛ ولكنها لم تشهد هذا الحجم من الدم والدمار. لقد جرى استبدال منظوماتها الحاكمة عبر التبديل في الأشخاص؛ وبقيت رهينة بصمت مريب للنفوذ الأجنبي. في الحالة السورية يبدو أنه ما كان تبديل الأشخاص ممكناً؛ فلن تجد تلك القوى التي كلّفت منظومة الأسد بحراسة حدود الكيان الأخطر أوفى أو أقدر منها على القيام بهذه المهمة؛ فكان القرار ربما بدعمها حتى تحوّل سوريا إلى حالة كسيحة مبعثرة لا تقوم لها قائمة لسنوات تعادل تلك السنوات الأسدية.

من هنا زادت عذابات السوريين، ومن هنا تشوّه وتبعثر بلدهم. وها هو شعار /أحكمها أو أدمرها/ يأخذ أبعاداَ جديدة. فالقائم عليه لم يبقَ لديه ما يدمر؛ ولا هو يستطيع أن يحكم؛ فالحكم لإيران وروسيا. وبناءً على هذا المعطى، ومع تكَشُّف كل ما يمكن أن يتكشف، تجد أن أهل المؤامرة في حالة فراغ، وتراهم مأزومين؛ فلا سوريا قابلة للزوال؛ ولا أهلها يتبخرون. لقد نبشوا الرفات وهربوها؛ ولكن سوريا غير قابلة للتهريب؛ وما هي برفات لتُنبَش وتُسَلًم لعدو؛ إنها كطائر الفينيق، ستقوم من رمادها، وتتخلص من منظومة كانت حارسة للعدو وحريصة على خنق روحها. ستعود، وتشكِل تلك الحالة التي ما سمحت لقادة الكيان أن يناموا قريري العين يوما.