سنعود من أجلك 2

2023.01.26 | 06:27 دمشق

سنعود من أجلك 2
+A
حجم الخط
-A

خلال وجوده مع زملائه في الغابة، وحتى بعد أن بقي أونودا بمفرده، كانت كل مواجهة مع آخرين هي مواجهة بالسلاح، لكنه يوم العشرين من شباط/فبراير 1974، التقى بشاب ياباني، وكاد السلاح أن يكون هو لغة الحوار هذه المرة أيضاً. إنه الطالب الجامعي المغامر نوريو سوزوكي. ترك دراسته الجامعية وقرر السفر والاستكشاف. واحدة من قراراته كانت البحث عن "الملازم أونودا". ما حدث في الواقع، هو أن أونودا من عثر عليه بعد أربعة أيام من وجوده على الجزيرة.

كان الشاب يحاول نصب خيمته الصغيرة عندما وضع أونودا مسدسه في رأسه، وكان مستعداً لإطلاق النار على الفور. لكن سوزوكي، تفادياً لموتٍ لا يتمناه، سارع للقول: "الملازم أونودا؟ إن الإمبراطور وكل شعب اليابان قلقون عليك، وهم بانتظار عودتك. هل تعود معي؟". سيصف أونودا هذا اللقاء في مقابلة عام 2010 بالقول: "جاء هذا الصبي الهيبّي سوزوكي إلى الجزيرة للاستماع إلى مشاعر جندي".

تحدث الرجلان ليومين كاملين. استمع أونودا لشرح مستفيض عما جرى في السنوات السابقة. سمع لأول مرة عن قنبلتي هيروشيما وناغازاكي واستسلام اليابان. وعن الأوضاع الحالية في بلده، مع ذلك بقي على موقفه الرافض للاستسلام. كان يكرر أنه ينتظر الأوامر من ضابط أعلى كي ينهي مهمته ويسلّم سلاحه. واعداً بأنه سوف يرجع بعد أسبوعين، عاد سوزوكي إلى اليابان مع صورٍ تجمعه بأونودا، كدليل على مواجهتهما.

بصحبة سوزوكي، التقى القائد مع أونودا محققاً، بعد تأخير دام ثلاثة عقود، الوعد الذي قطعه في عام 1944: "مهما حدث، سنعود من أجلك"

مما قاله أنودا للشاب "أنا جندي ياباني، ما زلت وفياً لمسؤولياتي وواجباتي". على الفور حددت الحكومة اليابانية الضابط الذي كان قائداً لأونودا. إنه الرائد يوشيمي تانيغوتشي. كان الرجل استسلم منذ فترة طويلة وأصبح مالك متجر لبيع الكتب. في التاسع من آذار/مارس 1974، بصحبة سوزوكي، التقى القائد مع أونودا محققاً، بعد تأخير دام ثلاثة عقود، الوعد الذي قطعه في عام 1944: "مهما حدث، سنعود من أجلك".

بطريقة ولهجة عسكرية صارمة، أصدر الرائد المتقاعد أوامره إلى أونودا الذي وقف أمامه باستعداد محنيَّ الرأس: "وفقًا للقيادة الإمبراطورية، أوقف جيش المنطقة الرابعة عشرة جميع الأنشطة القتالية. يتم إعفاء مقر قيادة الفريق الخاص من جميع المهام العسكرية. يجب على الوحدات والأفراد أن يوقفوا الأنشطة والعمليات العسكرية على الفور، وأن يضعوا أنفسهم تحت قيادة أقرب ضابط رئيس".

هكذا تم إعفاء أونودا بشكل رسمي من واجبه. أمامه على الأرض، وضع المحارب المزمن سيفه، وبندقية "أريساكا" وعدة قنابل يدوية، بالإضافة إلى خنجر أمه، وفوقهم ألقى حقيبته وبكى. بعد يومين، وفي حفل رسمي، مُصوَّر تلفزيونياً، سلَّم أونودا سيف الساموراي إلى الرئيس الفلبيني الذي أصدر عفواً عن أفعاله ضد السكان المحليين، باعتبارها أعمالاً تمت في زمن الحرب! وأعاد له السيف.

على مدى تسعة وعشرين عاماً في الغابة، قتل هيرو ومجموعته الصغيرة حوالي ثلاثين شخصاً وجرحوا مئة آخرين. فعلوا ذلك اعتقاداً منهم أنهم ما زالوا في حالة حرب. وفقاً للوثائق الدبلوماسية التي تم تبادلها في ذاك الوقت، شكّلت واقعة مقتل أو إصابة العديد من السكان على يد أونودا وزملائه، مشكلة تحتاج إلى الحلّ بين البلدين. خلال مفاوضات سرية بين الحكومتين، تم الاتفاق على أن تقدّم الحكومة اليابانية مبلغ 300 مليون ين كتعويض، وُصفت إعلامياً بأنها "أموال تعاطف"، إلى الجانب الفيلبيني.

استقبل اليابانيون عودة أونودا بحالة من الصدمة.  بثت محطات التلفزيون اليابانية الكبرى برامج خاصة عن عودته. في 12 مارس، سجل برنامج إخباري خاص بعنوان "عودة السيد أونودا"، الذي تم بثه على مدى أكثر من ساعة، أعلى نسبة مشاهدة في تاريخ البث التلفزيوني الياباني. مالت افتتاحيات الصحف الكبرى إلى اعتبار أونودا ضحية للحرب، رغم إخلاصه لمهمته.

مع كل الاهتمام الوطني الذي حظي به، لم يكن أونودا سعيداً. بل كان منزعجاً من تراجع وذبول القيم اليابانية التقليدية. إضافة إلى أنه تعرض لانتقادات من قبل بعض وسائل الإعلام، باعتباره "شبحاً يمثل النزعة العسكرية اليابانية المقيتة"، بل إنه لاحظ أن بعض نظرات الإعجاب كانت ممزوجة بشيء من السخرية، لإخلاصه الغريب والشاذ لوطنه، ما دعاه إلى البقاء كل هذه المدة في جزيرة نائية رغم انتهاء الحرب.

دفعت الحكومة اليابانية لأونودا حوالي مليون ين كرواتب متأخرة. رفضها في البداية، ثم بضغطٍ من الأهل وافق، لكنّه قدّمها على الفور، إضافة إلى التبرعات التي تلقاها من آخرين، إلى "ضريح ياسوكوني" الشهير (مؤسسة تحوي أسماء ومعلومات وأماكن موت حوالي مليونين ونصف من اليابانيين، الذين فقدوا حياتهم دفاعاً عن الإمبراطورية، منذ القرن التاسع عشر).

في أبريل 1975 وبعد نشره كتاب سيرته الشخصية "لا استسلام، حربي لثلاثين عاماً" الذي حقّق مبيعات قياسية، حذا أونودا حذو أخيه الأكبر تاداو، وغادر اليابان متوجهاً إلى البرازيل، ليعمل في الزراعة وتربية الماشية، ولم يرجع إلى بلاده إلا بعد عشر سنوات. بعد عودته أسس وأدار معسكراً لتدريب الفتيان على التعايش مع الطبيعة، مشاركاً شباب اليابان تجربته حول البقاء على قيد الحياة. عام 1996 زار هيرو جزيرة لابونغ الفلبينية، وتبرع بمبلغ عشرة آلاف دولار لمدرسة قريبة من المكان الذي أنفق شبابه فيه.

في 16 كانون ثاني/يناير 2014، توفي أونودا في طوكيو عن عمر 91 عاماً. كتبت واشنطن بوست "أونودا جسّد قيم ما قبل الحرب من الولاء والتضحية. تلك القيم التي أصبحت نادرة في أمةٍ انتقلت من الدمار بسبب الحرب إلى الازدهار. إنه درس لليابانيين عن الواجب والمثابرة".

بينما رأى أونودا نفسه مخذولاً من تبدلات القيم والأخلاقيات اليابانية، بسبب النهضة الاقتصادية والازدهار في بلده، فإني أقدِّر أن خذلان الرجل السوري الذي كفَّ حتماً عن التظاهر، كان سوداوياً أكثر

عودٌ على بدء. اليوم، لا أعرف الكثير عن مصير الرجل السوري الذي حدثتكم عنه في البداية، باستثناء أنه ما زال يعيش في مدينته. نعم تذكرونه، إنه الرجل الذي أراد الخروج للتظاهر وحيداً عام 2011. ولكني أخمّن أن يكون أصابه ما أصاب أونودا من الإحباط، مع فارق الأسباب.

بينما رأى أونودا نفسه مخذولاً من تبدلات القيم والأخلاقيات اليابانية، بسبب النهضة الاقتصادية والازدهار في بلده، فإني أقدِّر أن خذلان الرجل السوري الذي كفَّ حتماً عن التظاهر، كان سوداوياً أكثر، ولو أنه يعود أيضاً إلى تغيّر كل شيء، بما فيها القيم والأخلاقيات. لكن في حالته وحالتنا جميعاً، فإن هذا التغيّر كان بسبب الدمار العمراني والاقتصادي والبشري الاستثنائي، الذي قاده نظام الأسد، وفعلَ فعله بقسوةٍ بالغة في أخلاق كل السوريين. والمؤكد أكثر أن الرجل لا ينتظرنا، بل ربما كان على يقين تام أننا لن نعود من أجله.