سنعود من أجلك 1

2023.01.19 | 06:18 دمشق

سنعود من أجلك 1
+A
حجم الخط
-A

تصادف في صيف عام 2011 أن كان التشديد الأمني وانتشار الجنود كثيفاً في بعض الأحياء الشرقية لمدينة حمص، ما دعا منسقي المظاهرات في إحدى تلك المناطق، لطلب عدم التظاهر في يوم الجمعة ذاك، حرصاً على أرواح الشبّان. كانت الدعوة عقلانية وواقعية، إلا أن رجلاً ثلاثينياً كنت أعرفه، استشهد أخوه قبل فترة في المظاهرات، لم يوافق. كانت حجته "إننا أقسمنا في المظاهرات الأولى بالله العظيم ثلاث مرات متتالية، أننا لن نتراجع عن الثورة"، فكيف يُعقل أن نحنث بذاك اليمين الذي ردّده الآلاف. احتاج الأمر كثيراً من الحوار ومحاولات الإقناع لمنع الرجل من الخروج إلى الشارع والهتاف وحده بمواجهة الجنود.

لا أعتقد أن هذا الرجل كان حالة سورية فريدة، وحتماً جميعنا نعرف أشخاصاً يشبهونه. وقد عايشنا خلال العقد الأخير، حالات من التراجيديا لأبطال مشوا إلى حتفهم وهم يعلمون تماماً ما يفعلون، ويعرفون مصائرهم. ألم يكن "الساروت" الحالة النموذجية لواحدٍ من هؤلاء، الذين كانت خياراتهم ضيقة ومعروفة سلفاً. النصر، أو الموت في الطريق إلى تحقيقه. أستطيع القول إن أمثال هؤلاء ما زالوا موجودين. نراهم بين الحين والآخر في موقفٍ ما، أو في مظاهرة، يقولون ويرددون أمام الكاميرات، ما هم متأكدون أنه سيقودهم إلى نهايتهم المحتومة.

في الرابع عشر من أيلول عام 2012 تم رفع الستارة عن تمثال برونزي في جزيرة موروتاي الإندونيسية. المفارقة أن التمثال كان يجسّد "تيرو ناكامورا" الجندي في جيش اليابان الذي احتل إندونيسيا خلال الحرب العالمية الثانية. أسفل النصب كتب النقش التالي "هذا رجل دافع عن جزيرة موروتاي، وقاتل ضد الجنود المستعمرين".

فقد ناكامورا الاتصال بالجيش خلال الحرب الإندونيسية، وعاش وحيداً في غابة جزيرة موروتاي في إندونيسيا لمدة 30 عاماً

ناكامورا كان جندياً بوحدة تاكاساغو للمتطوعين التايوانيين. حارب في الجيش الإمبراطوري، وقاتل من أجل اليابان في الحرب العالمية الثانية، ولم يستسلم حتى عام 1974. وكان آخر مقاتل في الحرب العالمية الثانية يرمي سلاحه، رغم أن الحرب انتهت قبل 30 عاماً. كان قد سبقه إلى ذلك بشهور الملازم الياباني هيرو أونودا، الذي حظي بشهرة أكثر بسبب أنه من أصول يابانية.

فقد ناكامورا الاتصال بالجيش خلال الحرب الإندونيسية، وعاش وحيداً في غابة جزيرة موروتاي في إندونيسيا لمدة 30 عاماً. منتصف عام 1974، اكتشف طيار إندونيسي كوخه، وفي تشرين ثاني/نوفمبر، من ذلك العام، طلبت السفارة اليابانية المساعدة من الحكومة الإندونيسية في تنظيم مهمة للبحث عنه. قام بالمهمة سلاح الجو الإندونيسي، وانتهت بأن أسره الجنود الإندونيسيون في 18 كانون أول/ديسمبر 1974.

غنَّت مجموعة الجنود النشيد الوطني الياباني، فخرج ناكامورا واستسلم لجوقة المنشدين. عندما أخبره الملحق العسكري للسفارة اليابانية في جاكرتا، أن الحرب انتهت واليابان استسلمت، رد المحارب بهدوء: "اليابان لم تخسر، أريد أن أعود إلى هناك". بعد أقل من شهر وصل إلى بلده تايوان. هناك وجد زوجته قد تزوجت من رجل آخر، فهو متوفى حسب السجلات الرسمية منذ عام 1944. ووجد أن ابنه الذي تركه بعمر شهر واحد قد جعله جَدّاً لأربعة أحفاد. بعد خمس سنوات من عودته، توفي ناكامورا بسرطان الرئة.

إذا كان ناكامورا قد حافظ على حياته في عمق الغابات خلال 30 عاماً. فإن ملازم الاستطلاع الياباني هيرو أونودا، بقي يقاتل خلال كل تلك المدة في جزيرة لوبانغ في الفيلبين، ولم يصدّق أن الحرب انتهت وأن اليابان هُزمت. واصل أونودا حملته بصفة المكان معقلاً عسكرياً يابانياً، حيث عاش مع ثلاثة من زملائه (الجندي يويتشي أكاتسو، والعريف شويشي شيمادا والجندي كينشيشي كوزوكا). قام أونودا ورفاقه بأنشطة حرب العصابات، واشتبكوا في كثير من المرات مع الشرطة المحلية، بل وهاجموا في إحدى المرات محطة رادار أميركية. وواصلوا جمع المعلومات والتجسس، متوقعين عودة جزيرة لوبانغ إلى السيطرة العسكرية اليابانية.

بعد شهور، تم إسقاط منشورات عن طريق الجو تحوي أمر استسلام، موقعاً من الجنرال الياباني تومويوكي ياماشيتا قائد جيش المنطقة الرابعة عشرة. درس الجنود الأربعة المنشور وتوصلوا إلى أنه مزوَّر. على مر السنين، فقد هيرو جنوده واحداً تلو الآخر. عام 1949 انفصل الجندي أكاتسو عن المجموعة. عاش وحيداً لمدة ستة أشهر، قبل أن يستسلم للقوات الفيلبينية، بدا هذا الأمر بالنسبة للجنود المتبقين كمشكلة أمنيّة، فأصبحوا أكثر حذراً.

لم يستوعب أونودا تماماً ما يجري في العالم عبر ذاك الراديو. إلا أنه عرف أن اليابان كانت في حالة ازدهار، من خلال أخبار زواج ولي العهد أكيهيتو، وأولمبياد طوكيو عام 1964

 عام 1952، تم إسقاط رسائل وصور عائلية من طائرة تحثهم على الاستسلام، لكن الجنود الثلاثة خلصوا إلى أنها خدعة ذكية من القوات الأميركية. في ربيع عام 1954، قُتل شيمادا برصاصة أطلقها فريق فيليبيني يبحث عنهم. بعده بثمانية عشر عاماً، في 19 تشرين أول أكتوبر 1972، قُتل كوزوكا باشتباك مع الشرطة المحلية. وبقي أونودا بمفرده.

خلال وجوده هناك، سرق أونودا راديو "ترانزستور" من كوخ أحد السكان المحليين، وجلب معه أسلاكاً نحاسية ليصنع منها هوائي الراديو. لم يستوعب أونودا تماماً ما يجري في العالم عبر ذاك الراديو. إلا أنه عرف أن اليابان كانت في حالة ازدهار، من خلال أخبار زواج ولي العهد أكيهيتو، وأولمبياد طوكيو عام 1964، ومعها افتتاح خط "توكايدو شينكانسن" للقطارات السريعة. وتوصل إلى استنتاج أن اليابان تُحكم بواسطة دُمى وعملاء لأميركا، ولا بد من وجود حكومة منفى، قدَّر أنها في منشوريا، فتابع حربه، ولم يعد يستمع سوى لمسابقات الخيول والمراهنات.

في واحدة من حملات البحث اليابانية حضر شقيق أونودا. تحدث إليه من خلال ميكروفون طالباً منه الخروج إليه. هيرو، الذي سمعه وشاهده من بعيد، اعتقد أن الأميركيين كانوا يستخدمون شبيهاً لأخيه بهدف خداعه. فعندما تسلم الملازم مهمته من قائده عام 1944، أمره الرائد بعبارات واضحة وحازمة، بقيت في ذاكرته "تجب مواصلة قتال قوات الحلفاء حتى لو تمَّ احتلال اليابان. لا تغادر الموقع، حتى لو بقيت وحدك واضطررت لأن تأكل جوز الهند. مهما حدث، سنعود من أجلك".

أما والدته فقد أعطته تانتو (خنجر ياباني) لينتحر به قبل أن يسلّم نفسه للأعداء. لم يستخدم أونودا الخنجر في أي عمل، فهو يعتبر أن للتانتو استخداماً وحيداً. ولم يوقف حربه ويسلم نفسه، إلا حسب المراسم المعمول بها عسكرياً. منتظراً قدوم قائده الرائد يوشيمي تانيغوتشي، الذي سيأتي قريباً.