سليماني الوجه الآخر للبغدادي

2020.01.03 | 19:18 دمشق

580.jpg
+A
حجم الخط
-A

في فجر يوم الجمعة، وفي اليوم الثاني من العام الجديد، قتل الجنرال قاسم سليماني وهو عائد من ميادين جهاده في لبنان، فبعد أن وصل دمشق صعد في شركة أجنحة الشام التي هي الشركة السورية الوحيدة العاملة بين دمشق وبغداد، فحط في الأخيرة واستقبله نائب رئيس الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس برفقة عدد من قادة الميليشيات في العراق و سوريا ولبنان، وما إن خرج الموكب من مطار بغداد حتى اصطادتهم طائرة بلا طيار موجهة من قيادة العلميات المشتركة الأميركية في المنطقة الوسطى، فقتلا على الفور برفقة عدد من قادة الفصائل الميليشاوية العاملة في العراق وسوريا ولبنان.

رغم تصريحات إدارة الرئيس ترمب بإعلانها إنجاز العملية بنجاح، إلا أن هنالك نذراً هائلة بالتصعيد تلوح في منطقة الشرق الأوسط، فإيران ونظامها السياسي اعتبرا منذ منتصف العام المنصرم أن أميركا ترمب عالقة في مكان ما في المنتصف بين القوى المتصارعة في الشرق الأوسط، تخشى فيه من أن تتورط في أي نزاع مع الميليشيات من الممكن أن يؤدي إلى سقوط ضحايا أميركية أو خسارة لنفوذ ما أو مصالح ما متعلقة باستقرار النفط العالمي أو التجارة الأميركية في المنطقة، فعاثت قوات الخامنئي فساداً وعربدة مع كل خطوة من تصعيد العقوبات العسكرية الأميركية على إيران، فاحتجزت ناقلات نفط من عدد من الدول، وفجرت ناقلات عربية في ميناء الفجيرة، وأمرت الحوثيين بقصف شركة أرامكو الأسطورية في البقيق، ولم تتحرك الولايات المتحدة

كل هذه العربدة الإيرانية كان يقودها، قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني الذي كان يشرف بشكل مباشر على العمليات (القذرة)

بأي رد كان على كل ما حصل، حتى إن إيران سليماني قامت بتفجير عملية المفاوضات بين حركة طالبان وإدارة ترمب في الدوحة، عن طريق ميليشياتها في أفغانستان التي نفذت عملية في سبتمبر\ أيلول الماضي ضد القوات الأميركية فاضطرت الولايات المتحدة إلى ايقاف المفاوضات تحت الضغط الشعبي.

كل هذه العربدة الإيرانية كان يقودها، قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني الذي كان يشرف بشكل مباشر على العمليات (القذرة) التي لم يكن الحرس الثوري الإيراني يتورط بها لأنه كجهة مسؤولة ورسمية جزء من النظام الايراني وبالتالي سيترتب على تدخله توريط للنظام بشكل أو بآخر..

سعى قاسم سليماني بكل الوسائل لأن يوسع النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط عبر تدخلات سياسية مرات، وعسكرية مرات أخرى، واستخباراتية أمنية مرات أخرى، فمن المهام التي تتحدث وسائل الإعلام الغربية أنه كان متورطاً بها، اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، ودعمه لانتفاضة الأكراد ضد صدام حسين، و تورطه الدموي جداً في الحرب السورية ومسؤوليته المباشرة عن العشرات وربما المئات من المجازر في سوريا التي تمت بحق المدنيين من القصير إلى الزبداني و مضايا وصولاً إلى معركة حلب الكبرى والبوكمال والمنطقة الشرقية بشكل عام، و يذكر بأن القائد الوحيد مما يسمى حلف المقاومة الذي دخل حلب وشارك في احتفالات الميليشيات إبان سقوط حلب 2017 هو قاسم سليماني، حيث انتشرت صور عديدة له ويتجول في شوارع حلب المهدمة وأمام قلعتها التاريخية، في صور اعتبرها السوريون من طرفي النزاع مهينة جداً وتشير بشدة إلى أنه قائد قوة احتلال غريبة عن الأراضي السورية.

أما بعيد اندلاع المظاهرات في لبنان والعراق، فقد كثف الجنرال سليماني زياراته إلى البلدين، وأشرف بشكل مباشر على قمع المظاهرات في العراق وأمر بشكل واضح كافة عناصر ميليشيات الحشد الشعبي التابعة بشكل مباشر له إلى قتل وقمع المظاهرات بأي شكل، وهو الأمر الذي تكرر في شوارع طهران أيضاً وبإشراف مباشر منه.

كان قاسم سليماني أحد أعمدة الارهاب المزلزل للمنطقة منذ ما لا يقل عن ربع قرن، وكان لوجوده وشخصيته العدوانية الدموية أكبر الأثر على التطورات الدموية التي جرت في بلدانه، حيث بات البعض من الدبلوماسيين والسياسيين العرب والغربيين يصفونه بأنه الحاكم العسكري للبلاد العربية المفوض بشكل مباشر من الخامنئي لتسيير أمور لبنان والعراق وسوريا واليمن، فكان يتنقل بين هذه الدول دون أن يخطر حكوماتها و يتجول من الموصل حتى جنوب لبنان والجولان، ويجتمع مع قادة مؤثرين في تلك الدول بصفة دبلوماسية وسياسية وهو ما يتنافى مع صفته العسكرية الميدانية.

مع تطور الأوضاع بين إيران و الولايات المتحدة منذ سنة ونصف، برزت أصوات تنادي بتسليمه الرئاسة في إيران ليكون "قائداً حاسماً ومواجهاً صلباً"  للطغيان الأميركي على حد قولهم، و قد اجتمع المرشد الأعلى للثورة الاسلامية في إيران معه مئات المرات واستشاره في قضايا تتجاوز صلاحياته، وهو الأمر الذي اعتبرته الدول الأوروبية تصعيداً للخلاف بين الطرفين، فحكومة إيراني بقيادة المصنف ارهابياً ستكون بمنزلة حكومة إعلان حرب، وهو الأمر الذي يجسد الصراع الداخلي بين الأطراف السياسية في ايران نفسها، فالحرس الثوري حاول عدة مرات الانقضاض على السلطة وإزاحة الإصلاحيين من واجهة الحكم، لأنه يعتبر أنهم يجاملون الغرب ويتفاوضون معه أكثر مما ينبغي، وكمثال على الخلاف بين تلك الأجنحة هي استقالة وزير الخارجية جواد ظريف بعد أن استبعده قاسم سليماني من اللقاء الرسمي المفترض بين المرشد الاسلامي خامنئي وبين رئيس النظام السوري بشار الأسد في العام الفائت، وحضره سليماني فقط، مما اعتبره زعيم الدبلوماسية الإيرانية خرقاً لأصول وتراتبية الاستقبالات الرسمية فقدم استقالته على الفور كاحتجاج على تدخل الحرس الثوري في الحياة السياسية.

سليماني هذا، حصل على كل تلك القوة والنفوذ الغريب في إيران والمنطقة لأنه مدعوم بشكل مباشر و قوي من المرشد نفسه، حتى إن التقارير الواردة من إيران طوال العقد الماضي تتحدث عن علاقة أخوية بين الطرفين، وإعجاب شخصي من المرشد بالرجل الذي استطاع تطويع خمسة بلدان في المنطقة لمصلحة إيران، وكافئه على ذلك بالترقيات والمناصب إضافة إلى منحه وسام ذو الفقار، وهو أعلى وسام

لم يكن قاسم سليماني سوى إرهابي كبير ولكن بلباس عسكري نظامي، فلوائح قتلاه وجرائمه تمتد من أفغانستان إلى لبنان والعراق وسوريا واليمن، وحتى إيران نفسها

إيراني من الممكن أن يمنح في تاريخ البلاد، وهو لم يعط في فترة تمتد لثمانين عاماً لأكثر من عشرة أشخاص، مثل الجنرال فضل الله زاهدي الذي أطاح بحكومة مصدق واستلم رئاسة الوزراء فيما بعد كخليفة له في عام 1953، ويعد قاسم سليماني الرجل العسكري الأول منذ انتصار ثورة الخميني 1979، الذي يحصل على هذا الوسام العسكري الرفيع الذي بدء العمل به في العام 1921، وهو ما يعكس حجم الرجل وتأثيره في النظام الإيراني الحالي.

لم يكن قاسم سليماني سوى إرهابي كبير ولكن بلباس عسكري نظامي، فلوائح قتلاه وجرائمه تمتد من أفغانستان إلى لبنان والعراق وسوريا واليمن، وحتى إيران نفسها، رغم أن جرائمه هو وأبو مهدي المهندس معروفة عند الأميركيين منذ مطلع الثمانينات حينما فجرا السفارة الأميركية في بيروت وقتلا المئات من جنود المارينز، إلا أن سنة الولايات المتحدة الدائمة تكمن في استخدام أعدائها حتى الحد الأقصى ومن ثم التخلص منهم بعد أن ينجزوا المطلوب منهم إنجازه، مثله مثل الارهابي أبو بكر البغدادي، الذي قتل وسلب ونهب من بلاد المشرق مدناً وقرى تكاد تضاهي ما اقترفه قاسم سليماني، فما لم يدمره سليماني دمره البغدادي، فكانا رغم صراعهما الظاهر واقتتالهما بين العراق وسوريا، كانا وجهين لعملة واحدة من الارهاب والقتل والدموية، استخدمتهما أميركا حينما أرادت، وأميركا قتلتهما حينما أرادت.