سراب الفصل بين نظام الأسد وإيران (2)

2023.04.14 | 07:00 دمشق

سراب الفصل بين نظام الأسد وإيران (2)
+A
حجم الخط
-A

الخميني والأسد والعرب في السنة الأولى للثورة الإيرانية

تناولت في المقال السابق علاقة نظام الأسد بالطائفة الشيعية وملالي إيران والخميني قبل الثورة الإيرانية عام 1979، في سياق سياسة الأسد الداخلية والخارجية في اعتماد التضامن الطائفي كأحد أسس وصوله واستمراره في السلطة. وسيتناول هذا المقال الفترة الأولى بعد الثورة الإيرانية مباشرة وتأثيرها في البلاد العربية، وعلاقات الأسد بإيران آنذاك وتأثير ذلك في المحيط العربي. في محاولة لاستكشاف أبعاد تلك العلاقة المتينة بين الأسد وإيران رغم حداثتها آنذاك، ما جعله يقدمها على علاقات الشام مع امتداداتها الجغرافية والتاريخية بوصفها أحد أهم مراكز العروبة والإسلام السنّي تاريخياً، وعلى الرغم من تداعيات ذلك على الداخل السوري والمنطقة.

الآن، وبعد مرور كل تلك السنوات، وبالنظر إلى ما حققته تلك العلاقة من نتائج للطرفين وخاصة إيران؛ يمكن الجزم بأنها كانت علاقات استراتيجية وتحولت إلى عضوية، استطاعت الصمود أمام الكثير من المتغيرات في المنطقة ولم تستطع أي قوة أو دولة ثني نظام الأسد عنها حتى في أحلك الظروف، وأن جل ما كان يقدمه عند الضغط عليه المناورة والتنازلات اللفظية والشكلية، غالباً بالاتفاق مع إيران، ودون المساس بأسس تلك العلاقة. واستطاع الطرفان تطويق حالات تضارب المصالح التي حدثت بينهما كما في الثمانينيات بسبب التزامات الأسد مع بعض الأطراف الدولية، لكن إيران بعد أن تمكنت كانت تظهر له العين الحمراء، قبل أن تصبح لها اليد الطولى في زمن الأسد الابن وخاصة بعد 2011.

في بداية حكم الخميني جعل الأسد سوريا منصة متقدمة لإيران في العالم العربي، كما كانت التسهيلات السورية أساسية في تصدير الثورة الإيرانية إلى لبنان

الاختلافات الكبيرة بين سوريا وإيران من حيث البنية الاجتماعية والدينية والقومية، بالإضافة إلى طبيعة النظامين الأسدي البعثي الذي كان يسوّق نفسه بأنه الممثل الحقيقي للقومية العربية، والإيراني بطبيعته الطائفية الشيعية والقومية الفارسية، كل ذلك يدفعنا للتفكير ملياً بخلفية العلاقات المتشابكة بينهما، والتي لم تستطع أن ترقى وتتطور كأي علاقة بين شعبين أو دولتين مستقلتين تربطهما صلات ومصالح مشتركة، بل اقتصرت على أنها علاقة بين نظامين لأن جوهرها الأساسي مصلحة النظامين الحاكمين في البلدين بالدرجة الأولى، النظامان اللذان التقيا على اعتماد التضامن الطائفي كنهج أساسي في قيامهما واستمرارهما، وأحد أهم أدواتهم في سياستهما ومصالحهما الخارجية. وقد أثبت هذا التضامن جدواه بالنسبة للطرفين، خاصةً في الأوقات العصيبة لهما. ففي بداية حكم الخميني جعل الأسد سوريا منصة متقدمة لإيران في العالم العربي، كما كانت التسهيلات السورية أساسية في تصدير الثورة الإيرانية إلى لبنان، وسيطرة الطائفة الشيعية على القرار فيه. وكانت المساعدات العسكرية والسياسية السورية مهمة جداً لإيران لتحقيق التوازن في حربها ضد العراق. واستخدم الأسد علاقاته الجيدة مع إيران في ابتزاز دول الخليج العربي في الثمانينيات رغم إظهار نفسه كوسيط.

منذ السنة الأولى للثورة الإيرانية ظهرت التوجهات التي ذكرناها آنفاً. فبعد تهنئة الأسد للخميني بنجاح ثورته، وكان أول رئيس دولة يفعل ذلك، تابع ما كان قد بدأه قبل 1979 من مساعدة النظام الجديد في طهران بأوجه شتى، منها توظيف علاقات سوريا العربية والدولية لصالح النظام الجديد الذي فُرضت عليه عزلة إقليمية ودولية نتيجة سياساته التي دشنها بإعلانه تصدير ثورته "الإسلامية" للدول المجاورة، وجعله الدول العربية بمرمى أهدافه مباشرة، وكشف بشكل لا لبس فيه اتباعه التضامن الطائفي أساساً لتصدير ثورته. وكان زعماء إيران شديدي الصراحة في إظهار ذلك منذ البداية، فقد نقلت صحيفة دير شبيغل في تشرين الثاني 1979، أن آية الله حسين منتظري رئيس اللجنة الدستورية والمقرب من الخميني، قال "إن إيران سوف تصدر ثورتها إلى جميع الدول الإسلامية"، أما آية الله الخميني فقد وصف جميع رجال الدين الشيعة في الدول العربية المجاورة بأنهم "ممثلوه الشخصيون" المسؤولون أمامه وأمام ثورته، وكلفهم إفهام الشيعة بالقفزة الثورية الضرورية، وقد تلقت غالب الأوساط الشيعية هذه الرسالة بكل حماس كما ذكرت دير شبيغل. وبذلك يكون قد سعى لجعل الشيعة طابوراً خامساً في الدول التي يعيشون فيها، وبالتالي لم تكن أفكار وأهداف الخميني تهديداً للحكام فقط، بل تهديداً للتعايش في المنطقة بين الأكثرية السنية والأقلية الشيعية. ولكن لا بد من التذكير بأن الكثير من علماء الشيعة لم يستجيبوا لمساعي الخميني وخالفوه الرأي في مسألة الولي الفقيه، ورفضوا التبعية له.

سرعان ما بدأت نتائج أفكار الخميني بالظهور، مسببة صدمة فكرية وسياسية وانقسامات طائفية داخل بعض الدول العربية، لأنها شكلت توجهاً شيعياً عاماً جديداً اكتسح المجتمعات الشيعية فيها، واعتُبرت إيران ممثلة لهم. كيف لا، وآية الله منتظري يصف البحرين بالمقاطعة الرابعة عشرة من إيران، لتنتشر بعدها الاضطرابات الشيعية هناك. وفي الكويت انتشرت التجمعات الشيعية المؤيدة لثورة إيران، والخطب التحريضية، حتى اضطرت الحكومة الكويتية إلى طرد ممثل الخميني. أما السعودية، أكبر دول الخليج العربي، فاضطرت إلى إرسال قوات للبحرين لمساعدتها في ضبط الأمن، كما عقدت معاهدة للأمن مع العراق رغم الخلافات بينهما تحسباً من إيران. وفي مؤتمر القمة العربي في تلك السنة 1979 رفض الزعماء العرب الاستماع إلى الوفد الإيراني الذي حضر القمة طمعاً في الحصول على تضامن عربي. لم يكن هذا الحذر العربي بسبب الخلاف الشيعي السنّي بل لسبب سياسي هو أفكار الخميني التي حملت خليطاً متفجراً من التعصب الطائفي والقومي الفارسي. ولم يخفف من قلق الدول العربية إعلان الثورة الإيرانية عداءها للإمبريالية والشيوعية وإسرائيل. والآن وبعد كل هذه السنوات يبدو أن تلك المخاوف كانت في محلها، فقوة إيران ساهمت في خراب الكثير من البلاد العربية، وسيطرت على العراق بمساعدة الإمبريالية الأميركية التي ما تزال ترفع العداء لها، وحال بيروت ودمشق وصنعاء غني عن الشرح.

وحده حافظ الأسد ساند إيران سياسياً وعسكرياً مدفوعاً بعدائه السابق لنظام صدام حسين كما كان يروج

وحتى حافظ الأسد نفسه لمس ذلك في الطائفة الشيعية في لبنان التي أصبحت في معظمها موالية لإيران وأصبحت موالاتها لسوريا تتعزز وتتراجع في ضوء العلاقة بين البلدين كما يقول عبد الحليم خدام في كتابه "التحالف السوري الإيراني والمنطقة". كان كل ذلك قبل أن تنشب الحرب العراقية الإيرانية التي ستزيد الوضع تأزماً بين إيران من جهة وأغلب الدول العربية التي ساندت العراق من جهة أخرى وخاصةً الخليجية منها. وحده حافظ الأسد ساند إيران سياسياً وعسكرياً مدفوعاً بعدائه السابق لنظام صدام حسين كما كان يروج.

عمل الأسد الأب على استغلال العلاقات المضطربة بين إيران والعرب عن طريق القيام بدور المرسال والوسيط بين الطرفين، فكان يُظهر للدول الخليجية كالسعودية والكويت أنه معها، وأنه يحاول تهدئة الإيرانيين، ومستعد لإرسال جيشه للدفاع عنها عند الضرورة! وهو ما لم يحدث أبداً. وفي الوقت نفسه كان يؤكد للإيرانيين وقوفه معهم، وهو ما حدث فعلياً بحجة عداء الطرفين لصدام حسين، وهو ما يؤكده عبد الحليم خدام في كتابه آنف الذكر، لكن خدام يفوت ذكر الخلفيات الأخرى لهذا التحالف، علماً أن الدعم كان قد بدأ قبل الثورة عندما كان الخميني لاجئاً في العراق. ووصل الأمر إلى تبني سوريا للمواقف الإيرانية والدفاع عنها في كل المنتديات والمؤتمرات الدولية والعربية، واستثمار علاقات سوريا العربية ومع السوفييت والدول الشرقية لدعم إيران، حتى أنه كان يتمّ توقيع عقود السلاح مع الدول الشرقية باسم سوريا، وتوريدها إلى ميناء اللاذقية قبل نقلها إلى إيران.

كل هذا جرى في الفترة الأولى بعد الثورة الإيرانية، لتبدأ إيران لاحقاً بالتنمر على الدول العربية وخاصة الخليجية وتهددها، وليمثل الأسد دور الوسيط المصلح، لكن المبتز في الوقت نفسه، ويزداد التصاقه بإيران رغم المساعدات السخية التي قدمتها الدول الخليجية. وهو ما ستتم مناقشته في مقالات لاحقة.