الأنظمة الأقلوية المرعوبة والتوحش

2023.10.27 | 06:48 دمشق

آخر تحديث: 27.10.2023 | 06:48 دمشق

الأنظمة الأقلوية المرعوبة والتوحش
+A
حجم الخط
-A

يحار المختصون في السياسة والتاريخ وعلم الاجتماع في تفسير العنف والتوحش الذي يتعرض له السوريون والفلسطينيون، وإن كان التاريخ القديم قد نقل إلينا ما تقشعر له الأبدان من حروب ومجازر في أزمنة التعصب الديني والمذهبي والاستعماري. لكن في التاريخ الحديث والمعاصر، بعد أن قطعت البشرية أشواطاً واسعة على طريق التمدن والتحضر، أصبح الأمر مختلفاً. فقد ظهرت الدول الوطنية الحديثة، حيث تساوي القوانين بين المواطنين وتحفظ حقوقهم بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والاجتماعية والعرقية. وجاءت القوانين الدولية لتعزز حقوق الأفراد والجماعات والدول وتحكم العلاقة بينها. مع ذلك حدثت العديد من الحروب والمجازر التي صارت توصف في القوانين الدولية بالإبادة الجماعية (الجينوسايد) تقوم بها أنظمة وكيانات هاربة من زمن التوحش إلى عصرنا الحاضر ومنها الكيان الصهيوني ونظام آل الأسد.

توجه "إسرائيل" توحشها إلى من تعدّهم عدوها الوجودي؛ الفلسطينيين خاصة والعرب والمسلمين عامة، بينما تفرط في الحفاظ على حقوق مواطنيها بل اليهود في كل مكان. أما نظام الأسد، الذي يفوق توحشه الإسرائيليين بدرجات، لكنه موجه نحو من يفترض أنهم مواطنوه السوريون، ولم يوفر الفلسطينيين الذين عرفوا توحشه في سوريا ولبنان.

التوحش الذي ابتكره حافظ أسد استمر فيه وريثه بشكل مضاعف ضد السوريين الذين ثاروا على نظامه منذ عام 2011 وحتى الآن. وهو نفس ما تفعله "إسرائيل" اليوم ضد الفلسطينيين

في محاولته لتفسير عنف نظام الأسد و"إسرائيل" يقول المؤرخ وعالم الاجتماع الألماني تيودور هانف في كتابه الضخم عن الحرب الأهلية اللبنانية والأطراف الفاعلة فيها: إن سياسة "إسرائيل وسوريا" (يقصد نظام الأسد)، ككل نظام أقلوي مرعوب، هي سياسة الخوف. ويرى أن هذه السياسة خطيرة لأنها تقوم على المجازفة بكل شيء خارج العقلانية والموضوعية. فالخوف هو القوة المحركة للسياسة السورية. وقد دفعها الخوف من فقدان السلطة إلى إقامة نظام أكثر شدة من الأنظمة التي عرفتها البلاد سابقاً، كما كان الخوف دافعها للانتقام من الأكثرية المحكومة والمغلوبة على أمرها، وكانت القوة والبطش سلاح النظام الذي لم يتوان عن سفك الدماء لقمع أي تمرد ضده. وهذا ما حصل عام 1982 في حماة، التي لم يتردد حافظ أسد في قصفها بالمدفعية والدبابات وقتل آلاف السكان، كما فعل الشيء نفسه مع الفلسطينيين في لبنان لأنه كان يعدّ أي تهديد لدوره الإقليمي تمهيداً لفقدانه السلطة في سوريا.

التوحش الذي ابتكره حافظ أسد استمر فيه وريثه بشكل مضاعف ضد السوريين الذين ثاروا على نظامه منذ عام 2011 وحتى الآن. وهو نفس ما تفعله "إسرائيل" اليوم ضد الفلسطينيين، وهو ما اعتادت فعله منذ نشوء بذرتها الأولى. كلا النظامين ينطلقان من خلفية أقلوية تحكمها عقدة الخوف والريبة من الآخر، وهما يستمران في الحكم بالخوف والعنف ويؤمنان بأن كسر الإرادة والأمل عند محكوميهم (الفلسطينيين والسوريين) يؤمّن استمرارهما وتفوقهما. لذلك عند كسر حاجز الخوف جن جنونهما، كيف يُكسر وتظهر الإرادة والأمل عند من يحكمانهم؟ فالإرادة والأمل خطر وجودي عليهما، وجزاء ذلك الفناء بالإبادة والتهجير.

كتب مؤخراً الصحفي الأميركي المشهور توماس فريدمان مقالاً في نيويورك تايمز أشار فيه إلى إمكانية اتباع "إسرائيل" في حربها ضد غزة ما عُرف بـ "قواعد حماة" Hama Rules، في إشارة إلى التوحش الذي اتبعه نظام الأسد لإخضاع مدينة حماة

مؤخراً كثرت المقارنات بين الكيان الصهيوني ونظام الأسد وأيهما أكثر توحشاً، وإن كان أكثر السوريين والفلسطينيين يعرفون الجواب لأنهم جربوا توحش الطرفين. على الرغم من ذلك يُجمع من عندهم أدنى معرفة ومتابعة لما جرى في السنوات الأخيرة أنه لا يوجد نظام في عصرنا الحاضر يضاهي نظام الأسد في التوحش، مع الفرق الشاسع بين الحالتين السورية والفلسطينية، ففي سوريا يتوحش النظام على من يُفترض أنهم مواطنوه. لكن طبيعة النظامين وخلفيتهما واحدة رغم الفروقات هنا وهناك. فالصهيونية ونظام الأسد، بالإضافة إلى هذا التوحش الذي استدعى ردود أفعال يمكن اعتبارها طبيعية من الشكل نفسه، قاما بتدمير المجتمعات في منطقتنا بإصرارهما على اتباع سبل التضامن الطائفي الديني لبقائهما واستمرارهما. بالإضافة إلى تقديمهما الخدمات المتبادلة مع قوى إقليمية وعالمية (روسيا وإيران أو الولايات المتحدة الأميركية والغرب) لدعهمها ومساعدتهما في الإفلات من تبعات جرائهما.

بالعودة إلى المقارنات في التوحش، كتب مؤخراً الصحفي الأميركي المشهور توماس فريدمان مقالاً في نيويورك تايمز أشار فيه إلى إمكانية اتباع "إسرائيل" في حربها ضد غزة ما عُرف بـ "قواعد حماة" Hama Rules، في إشارة إلى التوحش الذي اتبعه نظام الأسد لإخضاع مدينة حماة التي عارضته. وفريدمان هو مبتدع المصطلح إثر تجوله في المدينة بعد مجزرتها بوقت قصير كمراسل لصحيفة التايمز ووصف ما شاهده. ومما قاله: "واحد من أكثر الأشياء التي رأيتها تقشعر لها الأبدان على الإطلاق: أحياء بأكملها بدت كما لو أن إعصارًا اجتاحها ذهابًا وإيابًا لمدة أسبوع". ومنذ ذلك الوقت عُرف هذا المصطلح في الغرب وناقشه العديد من المختصين. وعاد فريدمان إلى التذكير به في عام 2011 مع بدايات الثورة السورية، بمقال عنوانه:The New Hama Rules (قواعد حماة الجديدة) في إشارة إلى سير بشار على طريق والده، وذلك قبل أن يتجاوز توحش أبيه وقواعده في الغوطة وحلب وحمص وداريا وغيرها، وقبل استخدام البراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية، واستجلاب مجموعات المرتزقة، كفاغنر الروسية والميليشيات الطائفية الشيعية وغيرها، لقتل السوريين الرافضين له. وهكذا بات مصطلح قواعد حماة قديماً لا يليق بتوحش الأسد الابن الذي أتعب المتوحشين من بعده.

فكيف يمكن لهكذا أنظمة هاربة من زمن التوحش الاستمرار في محيطها؟ وهي حكماً لا يمكنها البقاء دون العنف والخوف. وإلى ماذا سيؤدي استمرارها في النهاية؟ لا بد من نهاية هذه الأنظمة المتوحشة.