رحيل جودت سعيد وسردية السلمية المستعادة

2022.02.02 | 05:09 دمشق

jawdat-said-turquieavoir-refuse-reviser-points-comme-demandaient-services-secrets-syrien_0.jpeg
+A
حجم الخط
-A

أعاد رحيل المفكر الإسلامي السوري جودت سعيد قبل أيام إلى أحاديث السوريين سردية السلاح والسلمية وأسلمة الثورة وكل ما حصل فيها، ذلك أن الراحل جودت سعيد، وهو أحد أهم دعاة اللاعنف في عالمنا العربي والإسلامي، كان يشدد في كل حواراته خلال عام 2011 وبدايات 2012، قبل أن تأخد الثورة شكلها المسلح الإسلامي المنظم، على ضرورة التخلي الفوري عن فكرة التسليح التي كانت بدأت تظهر على شكل مطالبات خجولة من أعضاء المجلس الوطني المؤسس حديثا حينذاك، أو بشكل علني وصريح لاحقا عبر مطالبة العالمين الغربي والعربي بتسليح الجيش الحر الذي كان بداية عبارة عن جنود وضباط جيش منشقين عن جيش الأسد ورافضين لحمل السلاح ضد أبناء بلدهم الثائرين، فهربوا وتخفوا في المناطق الثائرة، وبأسلحتهم الخفيفة صاروا يدافعون عن الناس ضد اعتداءات نظام الأسد وشبيحته، قبل أن تظهر في حمص كتيبة الفاروق، وهي أول تنظيم (ثوري) مسلح بطريقة منظمة، ومن كتيبة الفاروق تناسخت وتناسلت كتائب مشابهة حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه من فوضى في المناطق الثائرة و(المحررة) قبل أن يستعيدها النظام واحدة تلو الأخرى ويقضي على كل الظواهر الثورية الحقيقية فيها.

كان سعيد يرى أن تغيير السلطة والوصول إليها ينبغي أن يمر بمراحل النضال اللاعنفي: "فما أخذ بالسيف بالسيف يذهب"

ولعل في مسار الثورة السورية منذ لحظة انطلاقها ما يثبت أن نظرية جودت سعيد وكل أفكاره حول اللاعنف كانت صائبة، منذ زيارته إلى مدينة درعا في بداية الثورة والطلب من الثوار فيها المحافظة على السلمية مهما حدث، وحتى هذه اللحظة، ذلك أن ما سمي في الثورة بـ (الجهاد)، كان يقابله عند النظام (جهادا) أعنف وأكثر شراسة، بينما كان سعيد يرى أن تغيير السلطة والوصول إليها ينبغي أن يمر بمراحل النضال اللاعنفي: "فما أخذ بالسيف بالسيف يذهب" ورغم أن نظريته التي طبقت بالبدايات وبالحرف في داريا (حيث الكثير من مريديه ومؤيديه) لم تنفع مع إجرام كإجرام نظام الأسد وميليشياته العسكرية والأمنية، الذي انتقم من داريا وثوارها انتقاما شرسا، إلا أن العسكرة المنظمة أيضا وأسلمة الثورة لم تستطيعا إحداث أي تغيير في نظام الأسد، ولا تحقيق أي انتصار حقيقي للثورة ومبادئها، كل ما فعلاه هو التشارك مع العصابة الحاكمة في إغراق البلد بحرب عبثية ومجنونة، قضت على كل ملمح مدني في سوريا وأسّست لحالة التطرف والتطرف المضاد، وساهمت في انفضاض الرأي العام العالمي المصاب أصلا بحالة رهاب من الإسلام (إسلاموفوبيا) عن الثورة السورية، بعد أن كان التعاطف الدولي والعالمي معها مذهلا وكان يمكن استغلاله أشد استغلال لولا الخطاب الإسلاموي الذي اعتمده (الأوصياء) على الثورة من النخب السياسية والفكرية، ولولا التنظيمات الإسلامية الجهادية التي فتكت بالسوريين جسديا ونفسيا واستنزفت كل فرصهم وأحلامهم بالتغيير، (في بدايات عام 2013، بعد إدراج جبهة النصرة كمنظمة إرهابية وخروج أعضاء في المجلس الوطني (يساريين وديمقراطيين) كما كانوا يسمون أنفسهم، لرفض هذا التصنيف واعتبارها جزءا رئيسا من الثورة السورية قالت لي صحفية سويدية معنية بالشأن السوري وثورته: سوف تخسرون تعاطف الرأي العام الأوروبي معكم وسوف تخسرون معه إمكانية ضغطه على السياسة الأوروبية تجاه سوريا، اليمين الداعم للأسد في أوروبا سوف يستغل ما يحدث)، لم تخطئ تلك الصحفية في توقعاتها فقد حدث ما قالته فعلا، لم يعد ثمة اهتمام من الرأي العام الدولي بما يحدث في سوريا، لا بالضحايا ولا بالمشردين ولا بالمعتقلين والمختفين ولا بملايين الأطفال ممن فقدوا حقهم في التعليم والطفولة، ولا بالوضع المعيشي المزري والمذل في الداخل السوري، ولا بالدمار الذي طال معظم المدن السورية، ما من شيء الآن يخص سوريا أو ننشغل به نحن السوريين، يشغل بال أحد، بل أصبح السوريون هنوداً حُمراً هذا الزمن، إذ تفوّق أحدهم بشيء تسلط الأضواء عليه كما لو كان تفوقه معجزة، مع أن التفوق السوري لم يتوفق منذ زمن طويل ومع أن السوريين مثلهم مثل كل شعوب الأرض يفشلون وينجحون ويتنوعون، لكن الحرب الطويلة والعنف الذي أصبح صفة ملازمة للسوري مثله حولنا جميعا إلى ما يشبه (الفرجة)، يراها من يراها ويشيح بوجهه خشية أن يصاب بما يرى، أو يصفق تشجيعا لما يراه استثناء.

ورغم العديد من الكتابات السورية المتأسفة على رحيل المفكر جودت سعيد، فإن أحدا ممن دعموا التسليح المنظم وأسلمة الثورة من ناعيه، لم يذكر أنه ربما لو تم اعتماد السلمية بحسب مبدأ الراحل فلربما كان مسار الدم السوري أقل وطأة مما حدث، نعوه وكتبوا عنه متأسفين على رحيله دون أي ذكر لماذا غاب طوال السنوات الثمان الماضية عن الحضور في كل ما له علاقة بالثورة السورية أو بهيئاتها بما فيها الإسلامية، ولماذا تم تغييبه عن إعلام الثورة، ولماذا ظل حضوره في كل ما يختص بالثورة غائبا وقليلا؟ رغم أنه الأكثر قربا إلى ضمير الثورة ومبادئها من غالبية رجال الدين السوريين الآخرين التابعين لمؤسسة دينية صارمة، والذين انقسموا بين داعم للنظام بكل عنفه وبين داعم للجهاد الثوري المسلح، محولين فكرة السلمية إلى مادة للتندر في خطاب شعبوي تبناه أيضا مثقفون (ثوريون) كانوا من ضمن الناعين بحسرة للمفكر الراحل أخيرا.

هؤلاء تم إقصاؤهم أيضا عن الحضور الثوري في الثورة السورية بسبب ميلهم للسلمية وأحاديثهم عن مدنية الدولة المأمولة وعن الديمقراطية

لو خطر لأحد البحث عن فيديوهات لجودت سعيد أو عنه فسوف يجد سلسلة من الفيديوهات المخصصة للحديث عنه، لكنها كلها تبدأ من تاريخ 30 يناير 2022، أي من تاريخ رحيله القريب، وكأن رحيله عن واحد وتسعين عاما نبه الإعلام الثوري السوري إلى وجوده وذكر به، ورغم أن للراحل مريدين سوريين وعربا كُثرا ولم يتوقفوا يوما عن طرح آرائهم في الدين والعلمانية واجتهاداتهم في تفسير أكثر رحمة وأقل صرامة وقسوة للنص المقدس، مما عرضهم  للتكفير من قبل دعاة الفكر الجامد والأصولي، فإن هؤلاء تم إقصاؤهم أيضا عن الحضور الثوري في الثورة السورية بسبب ميلهم للسلمية وأحاديثهم عن مدنية الدولة المأمولة وعن الديمقراطية التي لا يمكن أن تستقيم مع السلاح، وهو من الأضرار الكبرى التي ألحقت بالثورة: إقصاء كل صوت معترض على الأداءات التي أوصلت الثورة إلى ما وصلت إليه، في ضربة قاضية لكل أهداف الثورة التي كانت أولى أهدافها استعادة الحق في حرية الرأي.

تعرفت إلى الراحل جودت سعيد شخصيا، في عام 2009، في جلسة خاصة لدى أحد الأصدقاء وأدهشني يومئذ بهدوء طبعه وتواضعه وألفة مظهره وابتسامته التي لم تخفها لحيته الطويلة، كان النقيض لكل ما لا أحبه في غالبية رجال الدين من جميع الأديان والملل والمذاهب: الاستعلاء والصرامة والصوت العالي ذو الغنة الغريبة، والجهامة، أو ادعاء التواضع والأبوية الزائفة، وزاد احترامي له حين عرفني بنساء عائلته لاحقا بعد الثورة، سيدات مثقفات ومناضلات وحرات دون ابتذال ودون ادعاء، شعرت كما لو أنهن صورته الأنثوية، أو الوجه الآخر له، الوجه الذي لا يرضي العامة والدهماء لكنه الأكثر نصاعة ونقاء وإخلاصا لفكرة تكريم المرأة في الدين الإسلامي، رحم الله المفكر جودت سعيد الذي يشكل رحيله الآن وغيابه في السنوات القليلة الماضية خسارة مضافة للخسارات السورية الكبرى.