ذاكرة مدينة: عبدو حكيم – صورة الدكتاتور الصغير

2020.07.11 | 00:19 دمشق

nasser_in_mansoura_1960.jpg
+A
حجم الخط
-A

أول صدمة سياسية تلقاها الصغير كانت صدمة سعيدة. كان صباحا خريفيا لطيفا. لم يكن برد المدينة المعروف في أوائل الشتاء قد استحكم من مفاصلها. يذكر الصبي اليوم لأنه كان يومَ خميس، والصبي يستعدَ للذهاب إلى المدرسة وهو يفكر باليوم التالي (الجمعة) وكيف سيستمتع بالعطلة. فجأة سمع أخاه بشّار يصيح بأعلى صوته بفرحة عارمة وهو يقفز فوق الكنبة كمن أصابه مسّ. كان الأب والأم والإخوة كلّهم مبتهجين فرحين، متحلّقين حول جهاز الراديو الذي يشبه صندوق الدنيا، يستمعون إلى صوت مذيع متحمّس وهو يلقي بكلمات كبيرة وكأنه يحرّك جيوشا في معركة. من بين كلّ العبارات الطنانة، سترسخ في أذنه عبارة "رد الحقوق الشرعية للشعب". كان أبواه وإخوته يتبادلون التهاني، كأنه صباح العيد.

"شو في؟" سأل الصغير بتلهّف ونوع من الخجل لأن الجميع يعرف شيئا سارّا إلاه.

وقال بشّار: "طار عبد الناصر".

لم يفقه الصبي شيئا. من هو عبد الناصر، ولماذا وأين طار؟ ولم عليه أن يبتهج إن طار رجل ما؟

وتطوّع بشّار – كما سيفعل كثيرا لاحقا – بشرح القضية السياسية للصغير. كان جمال عبد الناصر رئيس الوحدة السورية-المصرية ودكتاتور الإقليمين. اعتقل خلقا كثيرا وحلّ الأحزاب وكمّم الأفواه وأغلق الصحف، بما فيها صحيفة الأب التي كانت تصدر منذ عام 1948. أدخل إلى البلاد حكم المخابرات الذي لم تكن تعرفه وعزّز سلطة المكتب الثاني الذي غدا قوى قوّة في البلاد. وسلّط على السوريين سطوة رجل قاسٍ لم يكن يعرف رحمة ولا شفقة اسمه عبد الحميد السرّاج، الذي حكم سوريا بالحديد وحوّلها من مجتمعي مدني إلى آلة تسيرها البيروقراطية والخوف. سيتعرّف الصغير على عبد الحميد السرّاج فيما بعد من صوره ومن الصحافة. كان وسيما رياضيا قويّ البنية. حين سيقارنه الصغير وقد كبر – بخلفائه الذين استولوا على مراكز تشبه مركزه، من مثل عبد الكريم الجندي وعلي دوبا وحسن خليل وعلي مملوك، سيجد فرقا كبيرا. فالسرّاج كان عقائديا حقيقيا، وسواء أكرهتَه أم أحببته، فأنت لن تستطيع أن تتهمه بالفساد أو استغلال منصبه لمنفعة شخصية. ومع ذلك فقد كان مجرما. ومن أهم جرائمه تعيينه مجرما تافها اسمه عبدو حكيم، حوّل حمص إلى مدينة رعب حقيقية.

بين ضحايا عبدو حكيم الكثيرين كان أخو الصبي الأكبر فراس. حين كانت مسيرات التأييد لعبد الناصر تعمّ البلاد، لم يكن فراس يشارك فيها، بل كان يزيد على امتناعه المشاركة اتهامات علنية لعبد الناصر بالدكتاتورية وتهديم الديمقراطية السورية.  كان متعاطفا مع موقف أبيه الذي خسر جريدته بسبب عبد الناصر وتحوّل إلى صاحب مكتبة تبيع دفاتر وأقلاما للطلاب. ولكن كان لدى فراس سبب آخر. كان قد بدأ يقترب من أفكار القوميين السوريين، ويرى أن سوريا جزء من الأم السورية وليس الأمة العربية. ولم يحب عبدو حكيم رفض الفتى المشارك في المسيرات، فأمر بتوقيفه. حين أدخلوا فراس إلى مكتب عبدو حكيم، نهض الشاب الذي لم يكن تجاوز العشرينات من عمره، من وراء مكتبه وصفع فراس صفعة مدوية أرجعته خلفا إلى الجدار، قبل أن يخرج من وراء مكتبه ويثني بصفعة ثانية ألقت به أرضا. وحين سيروي القصة للصغير بعد سنوات كثيرة، سيقول له: كانت يداه كمخباطين. شابّ قوي البنية في أواخر العشرينات." بعدها سيقرر فراس أن يتدرّب على الملاكمة، فيأتي إلى البيت بكيس التدريب والقفازات والأثقال، وسيحوّل غرفته إلى حلبة تدريب رياضي.

سيمضي فراس ليلتين في الحجز. بينهما ليلة رأس سنة 1960. وأمر عبدو حكيم فجيء بحلاق، حلق له شعره "على الصفر"، ثمّ أُجبِر على دفع أجرة الحلاق، قبل أن يفتح باب الزنزانة ويقال له إنه يستطيع الخروج. رفض فراس في البداية إطلاق سراحه، خشية أن يرى أهله وجهه المتورّم، ولكن السجان نصحه:

"أخرج قبل أن يغيّر رأيه."

وخرج.  أمه التي اعتقدت أنه في حماة يزور أبناء عمومته، كما أخبرها الأب، فتحت له الباب، وحين رأت شعره الحليق ووجهه المتورّم أطلقت صرخة يائسة، وصاحت:

" مين عمل فيك هيك؟ الله يكسّر أيديهم!"  

وسيكسر الله أيديهم. وسيطوي التاريخ عبدو حكيم بعد الانفصال، وسيذوي في الذاكرة، فلا يذكره سوى من تأذّى منه.

ولن يكون ذلك آخر توقيف لفراس. بعد عقدين من الزمن، سيعتقله محمد ناصيف في فرع الأمن الداخلي بدمشق. كان الصغير قد كبر، وصار قياديا في تنظيم يساري، حمل عليه نظام البعث بقسوة، فاعتقل أعضاءه وأصدقاءه. بين الأصدقاء كان فراس.

لم يتسنّ للصغير معرفة أخيه الأكبر جيدا في طفولته، فقد غادر بيت العائلة في حمص إلى الجامعة في دمشق حين كان الصغير طفلا صغيرا. وليس لدى الصغير في ذاكرته أي صورة له وهو مقيم بينهم، سوى صورة باهتة عنه وهو يضرب كيس الملاكمة المعلّق من سقف الغرفة أو يمرّن عضلات ذراعيه مستخدما الأثقال الخفيفة التي كانت تصطفّ إلى جانب كتبه في غرفته التي نادرا ما كانت الأم تسمح للصغير بدخولها. ولكنه يتذكّره حين كان يزورهم في حمص، في الإجازات والعطل، حين كان نظام البيت بكامله يتغيّر. كان فراس يحظى باحترام الأبوين والإخوة، وكان قادرا على فرض مزاجه على البيت، فتختفي أصوات الإخوة، ويحتلّ الغرفة الداخلية وحيدا، بينما يتوزّع الآخرون على باقي الغرف.

في صباح أياري دافئ، كان فراس في مكتبه في وزارة الصناعة، حيث كان يعمل كخبير في تطوير الإدارة، حين وصلت إلى الوزارة دورية من الفرع الداخلي، واعتقلته من مكتبه، وساقته – بين ذهول زملائه – إلى فرع الخطيب. أوقفه السجانون قرابة العشر ساعات، وجهه يواجه الجدار، دون ماء أو طعام، وهو يسمع أصوات التحقيق والتعذيب. في التاسعة مساء استدعاه النقيب تركي علم الدين، وبدأ التحقيق معه. بعد إطلاق سراحه، لم يعذّبه تركي أو يهنه، ولكنه كان يريد منه أسماء. وكان لدى فراس هاجس رئيسي: ألا يضطر إلى الاعتراف عن أخيه. في منتصف الليل انتهى التحقيق، وسيق فراس إلى مهجع صغير فيه نحو من عشرين موقوفا، بينهم يوسف عبدلكي، حيث ستنشأ بين الرجلين صداقة تستمر إلى اليوم.

في الخارج، كان الصبي الذي كبر يعاني تأنيب الضمير، ففراس بالنسبة له كان الأخ الأكبر، ولكنه كان أيضا مهجة عين أبيه وأمه، وكان الصغير الذي كبر يشعر أنه السبب وراء توقيفه، فهو في النهاية من أدرج اسمه في قائمة الأصدقاء. وكنوع من التعويض، وجد نفسه يطرق باب رئيس اتحاد الكتّاب العرب علي عقلة عرسان. استقبله الرجل الذي كان جلس على كرسي رئاسة الاتحاد قبل سنة فقط ولكنه لصق به أكثر من ثلاثة عقود وهو جالس، ينظر إلى الشاب شذرا.

"أنا هنا من أجل أحد أعضاء اتحادكم: فراس سوّاح."

"كاتب ممتاز،" قال عرسان بخبث.

"ولكنّه في السجن،" أجاب الشاب.

"ليس لأسباب تتعلّق بكتابته."

"ولكن من مسؤوليتك الدفاع عن الكتاب المعتقلين.  

"ليس إذا كانوا قد ارتكبوا جرما سياسيا."

"ولكن فراس ليس سياسيا ولم يقم بفعل سياسي."

لم أستطع أن أثبت ذلك، فصمت، وراح علي عقلة عرسان يتشاغل بقراءة ورقة على مكتبه، وقف الشاب، ونظر إليه يتأمله مليا قبل أن يستدير ليغادر مكتبه دون تحية. وستظلّ صورته وهو يتشاغل عنه بورقته، بجبن وتهرّب، هي الصورة التي ستعلق بذاكرته إلى الأبد. ولكن في مواجهة جبن عرسان، تقدّم لنجدة فراس الأب الياس زحلاوي، الذي استطاع بما له من نفوذ معنوي أن يسهم في إطلاق سراحه، وترافق ذلك مع مقال نشرته اللوموند الفرنسية، تحدّث عن فراس، كما تناولت خبر اعتقاله إذاعات عديدة منه مونت كارلو.

بعد أسبوع أو اثنين، تمّ نقل شباب الرابطة إلى سجن كفر سوسة، ونقل فراس إلى المنفردة، حيث سيمضي ستّة أسابيع أخرى، قبل أن يتم إطلاق سراحه. في الزنزانة لم يكن له من مواسٍ سوى أبو رمزت، عين الجلّاد الذي كان يعذّب المعتقلين. كان قد قرأ كتاب "مغامرة العقل الأولى" وسيمرّ عليه في كلّ ليلة لتبادل الحديث والدردشة. قبل أن يطلق سراحه، سيستقبله في مكتبه محمد ناصيف، ويعطيه محاضرة في الوطنية وحب الوطن. وحين سيعود فراس إلى بيته سيجد أن رئيس الوزراء قد سرّحه من وظيفته تسريحا تعسفيا وفقا لمادة في القانون تجيز له ذلك.