ذاكرة مدينة: من الفريال إلى التوليدو – تحوّلات حمص الكبيرة

2020.11.13 | 23:01 دمشق

sat-hms-aljdydt-09042019585_1.png
+A
حجم الخط
-A

إلى جانب المقاهي الشعبية، بدأت تتسلّل إلى المدينة أوائل الستينيات مقاه مختلفة، أصغر حجما، وأقل عددا، وأخفت إضاءة. لم يدخل الصبي أيا من تلك المقاهي، ولكنه كان يمرّ بها أحيانا، فتلفته أناقة الروّاد وحديثهم الخافت. وغالبا ما كان الرواد يأتون فرادى أو مثنىً، فيجلسون إلى طاولات صغيرة ويحتسون صنفا من القهوة لم يكن الصغير قد سمع به من قبل: الإكسبريس، ويقرؤون جريدتهم أو يتداولون موضوعا ما بصوت منخفض.

أول هذه المقاهي كان البرازيل، وهو مكان صغير على كتف سينما الأوبرا، قبالة مبنى بلدية حمص. ولا يتذكر الصبي متى افتتح المقهى، فقد كان هناك منذ أن تفتّح وعيه على شوارع المدينة، وعلى الأرجح افتتح المقهى في نهاية الخمسينات، إثر نجاح سميِّه الدمشقي الذي كان ملتقى رموز الكتلة الوطنية والتجار الدمشقيين"، والأدباء المعروفين كفؤاد الشايب، الذي يعد أهم كاتب قصة قصيرة في "سوريا" في مرحلة الاستقلال. وكان والد الصغير يرتاده حين يسافر إلى العاصمة لحضور فعالية أو لقاء رفاق وأصدقاء. ولكن على خلاف البرازيل الدمشقي، لم يشهد البرازيل الحمصي حلقات النقاش العريضة ولا الاستعراضات السياسية الواسعة، بل بقي أقرب إلى الحميمية والرهافة والشاعرية والحكمة.

ولا ندري ما إذا كانت التسمية آتية لأنه كان يقدّم البنّ البرازيلي حصرا، أم لأن الهجرة الحمصية إلى أميركا اللاتينية كانت في ذلك الوقت تترك أثرها في حمص، بسبب الحوالات المالية التي كان المغتربون يرسلونها إلى أسرهم في حمص.  وكان البرازيل يقدّم إلى جانب القهوة أنواعا من الكاتو والبتي فور والحلويات الغربية الأخرى. أما الشاي، فكان يقدّم في فناجين كبيرة وليس في كاسات الشاي الصغيرة ذات الخصر.

وحين كان الصبي يمرّ في حذاء المقهى، كان يشعر برهبة وهو يرى إلى النُّدُل النظيفين الذين كانوا يخدمون الزبائن بأناقة ولطف، على عكس أبو فيصل الذي كان يخدم أباه وزبائن مقهى الفريال. كما كان يعجب بنظافة الزجاج بشكل خاص، حيث كان يرى خياله منعكسا فيه، ويخيّل إليه أن صورته كانت تبدو له أجمل من انعكاساته على المحال الأخرى.

إذا تجاوزت البرازيل باتجاه جورة الشياح، ستعثر بعد أمتار على مقهى آخر، هو مقهى الغندور، الذي افتتحه أحد الشريكين اللذين كانا يملكان البرازيل وقد اختلفا، غير أن الغندور كان مجرد نسخة غير أصلية عن أناقة البرازيل وترفّعه. أما إذا رجعت خلفا باتجاه شارع الرئيس شكري القوتلي، فستمر حتما بمطعم البيروتي الذي كان على مستويين، المستوى الأول الأرضي كان يقدّم القهوة أما القسم العلوي فكان يقدم الطعام. وأيضا ستمرّ سنوات قبل أن يكبر الصبي ويتجرأ على دخول المطعم وتناول ألذّ فطور سوري يقدّمه ندْلٌ أنيقون بملابس بيضاء ناصعة وإتيكيت مميّز.

قبالة البيروتي، على الطرف الآخر من شارع القوتلي، كان الإكسبرس، الذي كان يقدم المشروبات الروحية والطعام للنخبة الحمصية، في جوٍ يجمع بأصالةٍ بين الذوق الغربي والشرقي في المأكل والمشرب والمناخ الذي يحيط بالروّاد. وفي مطلع السبعينات ستُفتح في شارع الدبلان المتفرع عن ساحة الساعة نحو الغرب كافتيريا "رينبو"، التي حاولت الجمع بين أصالة البرازيل ونخبويته، من جانب، وحيوية شارع الدبلان المعروف بأنه أكثر الشوارع اكتظاظا بالشباب والصبايا قبيل الغروب وبعده، من جانب آخر.  وأما الشارع فاسمه الرسمي "شارع المتنبي"، ولكنه أخذ اسمه من بقالية كان يملكها شخص يلقّب بالدبلان لسبب ما، فغلب اسم الدكان الصغيرة وصاحبها على اسم أهم شاعر عربي في التاريخ.  قهوة رينبو كانت تضمّ جيلا جديدا من الشباب والصبايا ومثقفين أصغر عمرا من مثقفي الفريال والبرازيل، وغالبا ما يجلس الروّاد لتناول الشاي مع الكاتو ثم يغادرون لإكمال مشاويرهم.

وبعد الرينبو، سيفتح صاحب مكتبة عريقة في حمص مقهى جديدا، سيسميه، "الواحة"، وسيكون أرحب وأقرب للقلب من جاره، وهو المقهى الذي سيتردّد إليه الصبي وقد غدا طالبا في الثانوية، كلّما توفّر لديه نصف ليرة، ثمن فنجان الكاكاو بالحليب فيه.

ولكن الانقلاب الحقيقي جاء مع تغيير قهوة الفريال إلى مقهى ومطعم نخبوي راقٍ، سيغيّر وجه قلب المدينة بكامله. كان الفريال ملجأ النخبة المثقّفة والسياسية الحمصية ما قبل انقلاب حزب البعث في 1963. ومع الانقلاب، تحول المقهى ليغدو مقرّا للسياسيين والصحفيين المتقاعدين، كوالد الصغير لؤي الأتاسي ومحجوب شاهين وعبد الكريم شاهين، الذين حين لا يلعبون الورق كانوا يتأملون كيف يسيطر العسكر والبعثيون على مقاليد الأمور في البلاد، وكيف يتراجع دورهم هم إلى الزوايا المنسية في مقهى منسي.  وفي الصيف كانوا غالبا ما يجلسون على الرصيف قدّام المقهى يرشفون القهوة ويرقبون المارّة من أمامهم. والحال أن المدينة التي كانت تقرأ خمس جرائد يومية (الفجر والسوري الجديد والعهد والبيان والبلد) وعددا من الدوريات الأسبوعية والشهرية، ستكتفي بعد ثورة البعث بجريدة واحدة هزيلة هي "العروبة"، التي كانت تصدر في أربع صفحات

كان الأتاسي أحد قادة انقلاب آذار الذي اشترك فيه ناصريون وبعثيون، ولأنه الأعلى رتبة، سمي رئيسا للمجلس الوطني لقيادة الثورة

تمجّد البعث والعمال والفلاحين وتتجاهل المدينة وأهلها وأسواقها وكتابها وفنانيها. بينما أجبرت الصحف الأخرى على الإغلاق، وأحيل محرّروها إلى مقهى الفريال. وحين سيطيح البعثيون بالشريك الناصري في 18 تموز/يوليو 1963، إثر محاولة تمرّد جاسم علوان، سينضمّ إلى فرقة السياسيين المتقاعدين الفريق لؤي الأتاسي الذي استقال لتوّه من رئاسة مجلس قيادة الثورة (أي رئاسة الدولة).

كان الأتاسي أحد قادة انقلاب آذار الذي اشترك فيه ناصريون وبعثيون، ولأنه الأعلى رتبة، سمي رئيسا للمجلس الوطني لقيادة الثورة، وزار القاهرة ليعيد الوحدة مع الرئيس جمال عبد الناصر التي كان السوريون قد تخلّصوا منها قبل عام ونصف، وتوصّل مع القادة المصريين على إعلان ميثاق الوحدة الثلاثية (مع العراق ومصر)، وهي الوحدة التي بقيت على الورق.  ثمّ في تموز/يوليو، حين كان الأتاسي في ضيافة الرئيس عبد الناصر مجددا لإكمال مباحثات الوحدة، كان ضابط ناصري مغامر يقود انقلابا جديدا في دمشق على شركائه البعثيين، وكانت محاولة دموية، انتهت بفشل الانقلابيين، وإعدام الكثير من الضباط، وفرار جاسم علوان إلى القاهرة. أما الفريق الأتاسي فآثر الاستقالة، أو أجبر عليها، وانضمّ إلى فريق السياسيين المتقاعدين في مدينته حمص.

وبينما كان السياسيون والصحفيون المتقاعدون يمضون أيامهم في مقهى الفريال، وقد تحوّل إلى الأمير، ستحدث أمور كثيرة مهمّة: ففي 5 من حزيران/يونيو 1967، ستمنى البلاد بأكبر هزيمة في تاريخها المعاصر أمام إسرائيل، حيث ستخسر واحدة من أجمل مناطقها وأكثرها عزّة ومنعة: الجولان.  وفي 13 من تشرين الثاني/نوفمبر 1970، ستزحف دبابات اللواء حافظ الأسد، وزير الدفاع الذي أمر بالانسحاب من مرتفعات الجولان وتسليمها للعدو، إلى القصر الجمهوري ومبنى الإذاعة والتلفزيون ومقرّ قيادة الأركان لتحتلّها وتعلن "الحركة التصحيحية المباركة"، التي ستتحوّل قريبا إلى كابوس دائم للسوريين. وأما ثالث الأمور، فهو قرار روحي الفيصل بيع قهوته الجميلة إلى مستثمر آخر، فغيّر اسمها إلى مقهى الأمير، وبقي يصارع من أجل البقاء، قبل أن يقرّر أحد روّاده، محجوب شاهين، صاحب جريدة البيان، شراء المقهى وتحويله إلى مقهى ومطعم فاخر في قلب المدينة.  وبإغلاق الفريال القديم، ستتغيّر كثير من الأمور للمدينة وأهلها.

كلمات مفتاحية