دير الزور.. المدينة التي يحتضنها الفرات ويخذلها البشر

2023.09.13 | 07:09 دمشق

دير الزور.. المدينة التي يحتضنها الفرات ويخذلها البشر
+A
حجم الخط
-A

قبل عام 1986م، زرتُ مدينة دير الزور مرات عدة، كانت زياراتي غالباً ما تكون لأيام قليلة، كانت المدينة تبدو لي في تلك الزيارات قاسية، وصعبة، وعصيّة على غريب مثلي، لكن، وكأنما الأقدار أرادت أن تنزع ذلك التصور عن هذه المنطقة السورية من رأسي، حين أرغمتني على العيش فيها، وعُيِّنت مدرسا في ثانوية "العشارة" في نهاية عام 1986م.

عشت في بلدة "العشارة"، التي تقع في منتصف المسافة بين مدينة دير الزور ومدينة البوكمال، على الجهة "الشامية" كما يصنفها أهل المحافظة، وهناك بدأت أتعرف شيئاً فشيئاً إلى الوجه الحقيقي للناس، وأخلاقهم وعاداتهم، وبدأت أفهم لغة نهر الفرات، وما يقوله في جريانه الأبدي، وما تقوله الصحراء المترامية، وعرفت معنى أن تسكن روحك هذه التفاصيل الغامضة البسيطة، وأن تعرف كم تخفي هذه القسوة الظاهرة على السطح، تحتها من الرِقة والكرم والأخلاق.

لم تستمر إقامتي هناك سوى بضعة أشهر، إذ أرغمتني الخدمة الإلزامية، وبعدها سنوات السجن الطويلة، على مغادرة دير الزور، لكن، ومنذ غادرت تلك المنطقة لم ينطفئ الحنين في روحي لدير الزور، ونهر الفرات بضفتيه (الشامية والجزيرة).

أن تستمع لياس خضر، وسعدون جابر، وحميد منصور وغيرهم الكثير، وأنت تجلس تحت شجرة نخيل، وأمامك يجري الفرات بكل مهابته وعظمته، هو سحر لا يُمكن لك أن تنساه، وهو يختلف كثيراً عن سماعهم في مكان آخر، وها أنا بعد ما يزيد عن خمس وثلاثين سنة، كلّما سمعت أغنية من أغانيهم، أتخيل الفرات ودير الزور.

ثمة جريمة لا تقل بشاعة ارتكبها حافظ الأسد بحق دير الزور، وتتمثل في إصراره على تحطيم قيمها، وأخلاقها وعاداتها، وفي إعلاء شأن الوضيعين فيها، وتغييب رجالاتها

ربما يُمكن الجزم بأن دير الزور هي المحافظة الأكثر تعرضا للظلم خلال حكم البعث، وتحديداً في فترة حكم عائلة الأسد، فبالإضافة إلى  التهميش المتعمّد، والإفقار، ونهب المقدرات، ثمة جريمة لا تقل بشاعة ارتكبها حافظ الأسد بحق دير الزور، وتتمثل في إصراره على تحطيم قيمها، وأخلاقها وعاداتها، وفي إعلاء شأن الوضيعين فيها، وتغييب رجالاتها.

منذ انقلابه العسكري 1970م وحتى موته 2000م، لم يتعامل حافظ الأسد مع السوريين في كافة مناطقهم، وفي تنوعهم، بفهم عميق لمعنى التنوع، ولا حتى بمعنى الوحدة المتعددة الأوجه، وكان تعامله محدداً وفق معيار وحيد، هو مدى قربهم أو بعدهم من تأييد سلطته، ووفق هذا المعيار كان عليه أن يواجه خصائص كل منطقة، بطريقة تهدف فقط إلى إخضاعها وقبولها به، ومن هذا المنظور يمكن فهم تعمّد حافظ الأسد لتهميش دور الزور وإفقارها، وعدم الدفع باتجاه تحديثها وتطويرها، وسعيه الدائم لسحق ما يُشكل جوهر خصوصيتها وقوتها.

في بدايات القرن الماضي، دفعت دير الزور ثمناً باهظاً، بسبب موقعها الجغرافي وترتيبات اتفاقية "سايكس / بيكو"، لكن الثمن الأكبر الذي دفعته لاحقاً، إنما يعود لهوس العظمة الذي أصيب به زعيما البعث في كل من سوريا والعراق، فلم ير حافظ الأسد في دير الزور مدينة سورية، يسكنها مواطنون سوريون، لهم حقوقهم ومواطنتهم الكاملة، بل رأى فيها مدينة مشكوكاً بولائها له بحكم علاقاتها التاريخية بالعراق، وبحكم تركيبتها السكانية العربية العشائرية، وهذا أيضاً ما حاول اللعب عليه صدام حسين، مستغلاً علاقات العشائر المتداخلة على ضفتي الحدود.

بتكثيف شديد، عمل حافظ الأسد على تطويع دير الزور بالترهيب، وحاول استمالة وجهاء عشائرها، وإتباعهم بأجهزته الأمنية، وضيّق هامش سلطتهم، ليس لجهة تعزيز سلطة القانون والدولة، بل لجهة الولاء له، وأدخلهم في دورة اقتصاده المدار بآليات الفساد والرشوة، وعزّز من حضور مؤسساته الأمنية، كل هذا أضعف من قدرة المواطنين على تطوير واقعهم، وأبقى دير الزور مدينة تكاد تفتقر لمعظم الخدمات الأساسية، رغم أنها المحافظة الغنية بمواردها وخيراتها.

بعد أقل من شهر على انفجار الثورة السورية، انضمت دير الزور إليها، وبعد انضمامها بفترة قصيرة، خرجت مظاهرتها الكبرى المعروفة، والتي تجاوز عدد المشاركين بها 150 ألفاً، وكان رد النظام عليها وحشياً بكل معنى الكلمة، وارتكب بحق أهلها العديد من المجازر، كان أشهرها وأكثرها بعدد الضحايا، مجزرة اقتحام حي الجورة ومن ثم القصور، وحصار المدينة لمدة طويلة، ولأكثر من مرة، ومنذ تلك المجازر، تناوبت السيطرة عليها سلطات أمر واقع، أذاقتها ولا تزال تذيقها المرارة، من النظام السوري، إلى داعش إلى "قسد".

لم تكن الأسباب التي سلطت "قسد" الضوء عليها، هي الأسباب الحقيقية للصراع الذي انفجر، وهي أسباب هامشية بمعظمها، إن لم تكن غير دقيقة، والسبب الأساسي، هو تجاهل قسد لحقيقة الثقل السكاني والقومي للمنطقة

في المعركة الأخيرة التي شهدتها محافظة دير الزور، ودارت بين قوات "قسد" وبين أبناء العشائر العربية، تعود من جديد قصص القهر والقمع، لتحكي حكاية المدينة الحزينة، المدينة التي لم يكن لأبنائها يوماً كلمة الفصل بمن يمثلهم، ويدير شؤون حياتهم، المدينة التي خذلها التاريخ، وخذلتها الجغرافيا، وخذلها أبناء وطنها.

لم تكن الأسباب التي سلطت "قسد" الضوء عليها، هي الأسباب الحقيقية للصراع الذي انفجر، وهي أسباب هامشية بمعظمها، إن لم تكن غير دقيقة، والسبب الأساسي، هو تجاهل قسد لحقيقة الثقل السكاني والقومي للمنطقة، وما يفرضه هذا الثقل من حق في إدارة شؤون المنطقة.

لن يفضي تجاهل حقائق الأرض، إلا إلى تفخيخها باحتمالات انفجارها مرات ومرات، وفي كل مرة يتم اللجوء فيها إلى العنف لفرض صيغ الإدارة والسيطرة ستزداد الصدوع بين أطراف الصراع، وليس أمام "قسد" وغيرها من قوى الأمر الواقع، سوى الاعتراف بهذه الحقائق، والاعتراف بأهميتها، والعمل على احترامها، فالتاريخ لا يمنح الحق للقوة الغاشمة مهما تكن، فكيف إذا كانت قوة مدعومة من طرف خارجي، يحمل صفة الاحتلال مهما تبدلت تسمياته.

دير الزور.. المحافظة التي تنام على ضفتي الفرات، والتي تتحكم بها قوى أمر واقع غاشمة مستبدة، قوى لا تعرف كيف تتهجى لغة هذه الأرض، ولا تعرف كيف يهدهد النهر حزن أبنائها، وكيف تسري مواويله في عروقهم، هذه البقعة من الجغرافيا السورية، لن تنام طويلاً على ظلمها.

من قلبي سلام للدير، سلام لشجرها.. ونهرها.. وأهلها.