دمعة مسلم على شيرين أبو عاقلة

2022.05.17 | 06:44 دمشق

bo9pr.jpeg
+A
حجم الخط
-A

اغتالت آلة القتل الصهيونية الأربعاء 11 من مايو/أيار، الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، وهي تؤدي عملها في تغطية اللحظات الأولى من اقتحام مخيم جنين من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، عندما كانت برفقة طاقم قناة الجزيرة الإعلامي، فاستهدفها قناص من قوات الاحتلال برصاصة استقرت في رأسها، فأدت إلى وفاتها.

ففي اللحظات الأولى من استشهاد شيرين أبو عاقلة سارع كل الأحرار في العالم والعالم العربي والإسلامي على وجه الخصوص، وبكل طوائفهم ومكوناتهم واتجاهاتهم بالدعاء وطلب الرحمة والمغفرة لهذه الصحفية الشجاعة، وتقديم العزاء لأهلها وأصدقائها.

انحازت الصحفية الشجاعة شيرين أبو عاقلة لصوت الحق والحقيقة والإنسان المستضعف والمظلوم في فلسطين الجريحة والمحتلة

وفي ظل هذا الجو من التراحم خرجت أصوات نشاز تعبر وتصدر عن منطق لا أخلاقي ولا إنساني فضلاً عن أن يكون إيمانياً ورحمانياً، يمثل أصحابه تديناً مغشوشاً وزائفاً يفتقد الحس الأخلاقي، فهو تدين تتشوه فيه براءة الروح، وطهارة الضمير، وسلامة الفطرة، هو نمط من التدين الشكلي الشعبوي ثم السلفي الذي يحاول محاصرة الحياة الإنسانية من خلال قراءة فاشية للنصوص الدينية لا تنتج إلا الكراهية والتكفير وفتاوى القتل واستباحة الدماء ومناهضة قيم الحقوق والحريات والخير الجمال. إن المعيار الحقيقي لاختبار إنسانية أي دين أو مذهب يتمثل في كيفية تعاطيه مع الكرامة البشرية، والموقع الذي تحتله الكرامة في منظومته القيمية، وكيفية انعكاسها في مواقف وسلوك أتباعه، كما أن الدين الذي يفتقد رسالته الإنسانية هو دين مفرغ من الرحمة بالضرورة، فضلاً عن أن يكون دين الله الذي (رحمته وسعت كل شيء) أو أن يمثل دين نبيه الذي أرسله رحمة للعالمين ولم يرسله سيفاً على رقاب العالمين. لأن الرحمة هي صوت الله، ومعيار إنسانية التدين، الرحمة بوصلة توجه أهداف الدين، فالكائن البشري لا يتأنسن إلا بالرحمة، التي بدورها تعبّر عن أسمى علاقة الإنسان بأخيه الإنسان.

لقد انحازت الصحفية الشجاعة شيرين أبو عاقلة لصوت الحق والحقيقة والإنسان المستضعف والمظلوم في فلسطين الجريحة والمحتلة لتوصل معاناته وعذاباته للعالم أجمع. شيرين إنسانة عربية فلسطينية مقدسية قبل أن تكون مسيحية، وكانت مخلصة لقضيتها ووطنها وصادقة في مهنتها ورسالتها والتي عبّرت عنها بأنها اختارت هذه المهنة لتكون إلى جانب الإنسان، ولتكون صوته للعالمين وهذا ما جسدته في كل مراحل مسيرتها الإعلامية ونضالها في كل الميادين من أرض فلسطين المحتلة، حتى توّجت ذلك كله بدمها وبروحها.

أنا أعتقد أن من تحمل هذه السمات والخصائص الإنسانية النبيلة، حتى لو كانت غير مسلمة – بحسب التصنيف الأيديولوجي الديني – هي بشكل أو بآخر أقرب إلى الله من كثير من أدعياء الدين ومتعصّبيه هنا وهناك، لأن هذه الصفات وهذه القيم التي تحملها ما هي إلا صوت الحق في الضمير الإنساني، وحضورها في حياة أي إنسان هي حضور للحق وتجل للإيمان بمعناه الواسع وللإسلام بصورته الرحيبة التي يدخل فيها كل من يؤمن ويجسد هذه القيم.

وهذا المعنى هو ما أشار إليه الشاعر الألماني الكبير غوته بقوله: "إذا كان الإسلام معناه التسليم لله، فعلى الإسلام نحيا جميعاً ونموت" هناك إصرار عجيب من التيارات التقليدية الدينية بشكل عام والسلفية منها بشكل خاص على إخراج الناس من رحمة الله فقط لأنهم ولسوء حظهم لم يولدوا من أبوين مسلمين، هذا تدين عدواني كئيب يغمر الروح بالأسى، ويتهدد وجودنا جميعاً، نحن نحتاج إلى تدين رحماني لا ينظر لأي إنسان إلا بوصفه إنساناً، لذلك نراه عندما يتعامل مع الناس لا يفتش عن معتقداتهم، ولا يسأل عن أديانهم، ولا تهمه أعراقهم وقبائلهم وطوائفهم.

التكفير أو الحكم بالكفر حق مطلق لله ورسوله، فلا تتألوا على الله ولا تفتروا على دينه، وارفعوا أيديكم عن مصائر الناس

يجب أن يفهم أصحاب الخطاب الديني بكل مسمياته وانتماءاته بأن جوهر العلاقة مع الآخر غير المسلم هو البعد الإنساني والأخلاقي فيه، فليس من همّ الدين تكريس ثنائية (الكفر والإيمان) لأنه لا يحق لأحد أن يحكم على أحد بالكفر، فالتكفير أو الحكم بالكفر حق مطلق لله ورسوله، فلا تتألوا على الله ولا تفتروا على دينه، وارفعوا أيديكم عن مصائر الناس فلستم أبناء الله ولا أحباءه ولا أوصياءه، ولا تمنّوا على الله إسلامكم.

"ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً".

يجب أن يقف العقلاء من أبناء هذه الدين أمام هذا الكم الهائل والرهيب من الكراهية باسم المقدس، لينتجوا خطابا تصالحيا منفتحا على الآخر يحترم الإنسان كإنسان في وجوده وكرامته وآدميته، خطاباً يقف بالضد من خطاب الكراهية ويتمايز عنه ويؤسس خطابا يختزن قيم التعايش، والتعددية، واحترام الأديان والإنسان. فهذا عليٌ صوت العدالة الإنسانية كما كان يحلو للمفكر اللبناني المسيحي جورج جرداق أن يسميه يقول: " إن لم يكن أخ لك في الدين فنظير لك في الخلق" فالواجب الأخلاقي والديني يملي علينا أن نثبت هذه القيم الإنسانية والحضارية لتكون أساس علاقتنا مع الآخر.

لن يموت صوت الشهيدة شيرين أبو عاقلة أبداً، ولا صوت كل حر يسعى لإظهار الحق والحقيقة، فسلام على روحها في العالمين وسلام عليها في الملأ الأعلى إلى يوم الدين.