النظام السوري.. و"خيانة الكلمات"

2022.09.03 | 05:35 دمشق

النظام السوري.. و"خيانة الكلمات"
+A
حجم الخط
-A

في روايته التي صدرت عام 1951م تحت عنوان " أين كنت يا آدم؟"، كتب الروائي والأديب الألماني هاينريش بول (1917 _ 1985) حول هتلر والتجربة النازية، فقال بأن الشعب الألماني أدرك جيداً بعد الحرب أن كل شيء كان قد دمّر، وأن البنية التحتية لوطن بكامله كانت قد أبيدت، وأن نتائج كارثية حقيقية حلّت بالأمة الألمانية، لكن شيئاً واحداً لم ينتبه كثيرون له، كان قد لحقه التهميش والدمار، ألا وهو "الكلمات". لم يدركوا أن هتلر قام بخيانة "الكلمات"، بمعنى أن كل الكلمات الجميلة والرفيعة والمتسامية التي كانت تطلق بوصفها شعارات، كانت قد دُمرت تماماً وانتهت قيمتها. كلمات مقدسة مثل: العدالة، الوعي، التقدم، الحرية، الحقوق، الأمة.. لقد أصبحت هذه الكلمات الحقة مادة للسخرية والاستهزاء والضحك. فقدت كل قيمتها الحقيقية وخسرها الألمان من جملة ما خسروا.

انتهاك شرف الكلمات وتدنيس المعاني التي تتعلق بها، كـ "العدالة، الحقوق، الحرية، الوطن، الشعب، الأمة…" هو ما يعمل عليه المستبدون والطغاة

وهذا ديدن كل طغاة الأرض وأكابر مجرمي البشرية، الذين عملوا على انتهاك كل الحرمات والمقدسات الدينية والوطنية والقومية والإنسانية، وإن أخطر الخيانات والانتهاكات التي غفل أو تغافل عنها الناس، هي خيانات من نوع آخر ألا وهي خيانة "الكلمات".

فانتهاك شرف الكلمات وتدنيس المعاني التي تتعلق بها، كـ "العدالة، الحقوق، الحرية، الوطن، الشعب، الأمة…" هو ما يعمل عليه المستبدون والطغاة للاستيلاء على العقول وتشويه الوعي وتزييف الحقائق من خلال الكلمات والمفاهيم، ومن أخطرها ما يتعلق بالوطن والمواطن والدولة..

فعندما يكون الحديث عن الخيانة بكل أشكالها، والانتهاكات لكرامة الإنسان وحقوقه وحرياته بكل صورها وامتداداتها في الواقع، فإن أول الأنظمة الإجرامية حضوراً في الذهن، هو النظام السوري وسجله الأسود الدموي الحافل بالخيانات والانتهاكات.

فلو حاولنا أن نصف أوضاع السوريين لعجزت الكلمات وقواميس اللغة عن بلوغ القصد. ولو تأملنا أحوال السوريين اليوم، لوجدناها بين جريح وقتيل ومشرد ومهجر. إنها مأساة بحجم الكون، وما يجري فيها كابوس وجودي يندر نظيره في تاريخ الإنسانية المعاصر. وبكونه نظاماً لا يمتلك أدنى شرعية سياسية وقانونية ووطنية وأخلاقية، بحكم وصوله إلى السلطة بانقلاب عسكري كان له ما بعده في تاريخ سوريا المعاصر، حيث لم يكن انقلاباً في السلطة أو انقلاباً عسكرياً أو سياسياً فقط، بل حدثت بسببه مجموعة من الانقلابات الكبيرة والصغيرة في عالم القيم والأخلاق، وفي عالم المفاهيم والكلمات وفي عالم السلوك والممارسات. من هنا عمد النظام "الأسدي" من خلال منظومته التسلطية الفاشية باغتصاب واحتكار كثير من الكلمات والمفاهيم الوطنية والقومية والسياسية والتربوية وحتى الدينية، والتلاعب بها كيفما يريد وفقاً لتحكّماته وسطوته.

إن رحلة الهدم والتدمير والتشويه لكل المنظومة القيمية للمواطن السوري، بدأت مع ما سمي زوراً وبهتاناً بـ "الحركة التصحيحية " في سبعينيات القرن الماضي حيث بدأ النظام السياسي بإفراغ القيم التي تمثل هوية وشخصية المواطن السوري، من مضامينها الأخلاقية والوطنية، من خلال التلاعب الممنهج بـ "الكلمات" وتحويلها إلى شعارات إيديولوجية، تقوم بتمجيد النظام ورموزه.

لم يكن الأمر صعباً جداً على النظام الذي استطاع أن يوظف الفن والأدب والتعليم والشعر والإعلام والمؤسسات والنقابات والأحزاب، في تمجيد الحاكم الأوحد والحزب الأمجد، والقائد الملهم والزعيم التاريخي، والأب المفدّى… إلخ، ترسيخاً لجميع الكلمات والمفاهيم الاستلابية التي تؤسس لاستمرارية النظام والمحافظة على جوهر الاستبداد والاستعباد. واحتلت مفاهيم الحزب "القائد" للدولة والمجتمع وتصوراته الإيديولوجية مثل الوحدة والحرية والاشتراكية، التي شكلت الغطاء الشامل لمختلف الممارسات السلطوية المضادة للإنسانية والإنسان في سوريا.

وبمزيد من شعارات الزيف والكذب السياسي من قبيل العلمانية والإسلام وحماية الأقليات والتنمية والتحديث والتطوير والحرية والوحدة والبعث والعروبة وتحرير فلسطين…إلخ، استطاع النظام احتلال السلطة والدولة والهيمنة على كل مفاصل الوجود السوري، إنساناً ووطناً ومقدرات.

لقد روّج نظام الخيانة والاستبداد من خلال أكاذيبه بأنه حارس القومية وحارس البوابات وأنه يشكل جبهة الرفض والمقاومة عن الأمة والعروبة، في مواجهة الصهيونية العالمية ويستعد لتحرير القدس وفلسطين، وأنه نظام الصمود والتصدي نيابة عن الأمة..!!

واستطاع أن يلعب على هذه الشعارات الوطنية والقومية على مدى نصف قرن من حكم سوريا.

حتى أصبحت هذه "الكلمات" لكثرة التشدق بها، وتوظيفها لخدمة نظامه المافيوي، مبتذلة لا قيمة لها عند كثير من السوريين، بل أصبحت محطّ سخرية وتندر، وخير من عبر عن هذه المأساة المضحكة المبكية، هو الأديب والشاعر السوري محمد الماغوط باختياره عنواناً لكتابه الأشهر "سأخون وطني" يختزن هذا العنوان كثيرا من القهر والألم، ولكنها طريقة الماغوط في التعبير عن موقفه من قضايا عديدة، كـ " الحرية والحق والعدالة والعيش الكريم…".

لا بد من إعادة الاعتبار لكل الكلمات والمفاهيم الوطنية والقومية والدينية والأخلاقية.. التي جرى خيانتها من قبل هذا النظام

فمع انطلاق ثورة الحرية والكرامة في سوريا، استطاعت هذه الثورة أن تسقط كل الأقنعة الكاذبة والمزيفة التي كان يرتديها نظام العار "الأسدي" وأزلامه من سياسيين وإعلاميين وفنانين ورجال دين ولصوص فاسدين من رجالات الاقتصاد… إلخ، ففضحت كل الشعارات والكلمات التي كانوا يتاجرون بها، وسقطت ورقة التوت العلمانية والتقدمية والاشتراكية والقومية التي طالما غطى بها عوراته القبيحة والمخيفة لنصف قرن من الزمن.

أخيراً لا بد من إعادة الاعتبار لكل الكلمات والمفاهيم الوطنية والقومية والدينية والأخلاقية.. التي جرى خيانتها من قبل هذا النظام الآثم، والعمل على إحيائها فيما ننشده من بناء منظومتنا القيمية المستقبلية في سوريا.