درعا والثورة.. بين الهزيمة والنصر

2021.08.11 | 06:33 دمشق

741-413b396943.jpg
+A
حجم الخط
-A

درعا ليست استثناءً عن الحالة السورية، ربّما لها بعض الخصوصية، وربّما لها كثيرٌ من الرمزية، لكنها جزء من معادلة الصراع الكبير، وفي زمن المشاريع الكبرى لا قيمة للخسائر الجانبية. السكان والبيوت والمدن والقرى مجرّد أرقام أو نقاط علّام على خرائط المصالح، قد تزداد قيمتها أو تقلّ حسب هذا الطرف أو ذاك، وقد تتحوّل من وسيلة إلى هدف، لكنها تبقى مجرد رموز وإشارات، تدلّ على حدود الصراع وحرص المتحاربين على تثبيت أقدامهم عندها لا أكثر.

لم يتغيّر سلوك النظام السوري منذ اللحظة الأولى للثورة السورية، عقلية النظام التشغيلية لم تهتز أبداً، إنّه الجمود على الهدف بغض النظر عن الوسائل. لم يكن أمام عين العُصبة الحاكمة في دمشق سوى هدف واحد يجب الوصول إليه، وقد حققته. البقاء في سدّة الحكم غاية وهدف، وما دونه وسائل وأدوات وتفاصيل لا قيمة لها بحدّ ذاتها. دمار المدن والحواضر والقرى، تهجير السكان، القتل والاعتقال والسلب والنهب، تقسيم البلاد بين سلطات أمر واقع مختلفة، احتلال البلاد تبعاً لمناطق النفوذ، ارتهان الجميع للخارج، انتهاء أي دور للبلد في هذه المنطقة على المدى المنظور وضياع أي قيمة وطنية لموقعها في معادلات الصراع الإقليمي والدولي، كلّ ذلك غير مهم مقابل الهدف الذي تحقق.

اختلال موازين القوى

بالعودة إلى الواقع الراهن في مدينة درعا، وبقليل من الموضوعية يمكننا القول إنّه لا تكافؤ بالقوى أبداً بين الطرفين، ولو أراد النظام اقتحام المناطق المحاصرة فعلاً لما وقف بوجهه شيء. السواتر الترابيّة والدشم والمباني المحصّنة والخنادق التي كانت تفصل قوات الثورة وفصائل الجيش الحر عن قوات النظام، تمّت إزالتها بالكامل خلال السنوات الثلاث الماضية. والسلاح الثقيل والمتوسّط تمّ تسليمه قبل أيّ شيء آخر، موارد التموين الخارجيّ قطعت، وأسباب الصمود شبه معدومة، فلا عديد المقاتلين بكافٍ ولا عتادهم الحربي أو اللوجستي بقادرٍ على مساعدتهم لحسم المعركة لصالحهم. لكنّهم مسلّحون ببنادق خفيفة وبوطنيّة ثقيلة وبثوريّة متجذّرة فقط، وهم يراهنون على أهلهم في حوران أولاً وفي سوريا ثانياً وعلى الزمن الذي يجلب المزيد من التضامن معهم كلّ لحظة ثالثاً.

بطولة شباب درعا وبسالتهم وحدها لا تكفي لصدّ القوّات المؤلّلة الكبيرة التي استقدمها النظام. نقاط الضعف التي بدت على النظام خلال الهجمة الأولى تمّ تفاديها، حيث قام بسحب قواته من الحواجز والنقاط والمفارز الضعيفة وجمّعها في مراكز كبرى وعززها بكثير من المدرّعات والأفراد. أي أنّه سحب ورقة الهجوم على خواصره الرخوة من أبناء حوران، والتي أدّت إلى إهانته وإذلاله. لا يمكن قطع طرق إمداد النظام أبداً، بينما شباب درعا محاصرون بالمطلق.

القيادة المركزية التي تتمتّع بها قوّات النظام، إضافة لمصادر القوّة الأخرى من موارد بشرية وعتاد وذخيرة، إضافة لعامل الزمن المنهك للطرف الآخر، وعدم حساسية موضوع المدنيين في عقيدة هذه القيادة الغبيّة، كلّها عوامل تضاف إلى أسباب اختلال موازين القوى. قد يكون هناك قوّة عسكرية وحيدة غير منضبطة، هي الفرقة الرابعة الخاضعة بشكل كبير للسيطرة الإيرانية، وهي التي تقوم بعمليات القصف عن بعد وعمليات الاستفزاز المباشر للمحاصرين. مع ذلك، فهي لن تخرج عن حدود الأوامر الصارمة للقيادة المركزية بدمشق عند الضرورة.

واقع القيادة المحلية

ضعف القيادة المجتمعية التي أخذت على عاتقها مهام تمثيل السكان المحليين ومهام مفاوضة النظام والحديث باسمهم أمامه أمرٌ واضح للعيان. وقد بدا ذلك جليّاً من خلال توقيعهم وثيقة ببنود مفصّلة مع النظام دون أخذ الموافقة المسبقة من الشباب الثائر المتحكّم بالأرض فعلياً، أي دون أخذ موافقة الثوّار المسلحين، وهذا ما يمكن استنتاجه من تبريراتهم بأنّ تسريب النظام لهذه الوثيقة هدفه خلق شرخ بين القيادة هذه وحاضنتها الشعبية وخاصّة الثورية. قد يصحّ الوصف بأنّهم فرّطوا في هذه الوثيقة بكثير من المكتسبات التي راكمها أبناء جلدتهم خلال السنوات الماضية، وقد يكون من الصواب التماس العذر لهم فيما قدّروه من اختلال موازين القوى، وبالتالي حرصهم على تجنيب الناس سفك الدماء والتهجير. يبدو أننا أمام ثلاثة مشاهد، الأول عنوانه الثوّار النشطون، وثانيه القيادة المحلية من وجهاء وأصحاب رأي، وثالثه المدنيون من الأهالي، وهؤلاء مع أي حلّ يحفظ كرامتهم ويحقن دماءهم ويصون ممتلكاتهم.

تردّدُ اللجنة المفاوضة، وعدم قدرتها على الحسم واتّخاذ قرارات صعبة ومؤلمة لكنّها فاعلة، أمر واضح للمراقب الخارجي، لكنّ إطالة أمد الأزمة ومعاناة المدنيين، له أسباب أخرى كثيرة. خوف اللجنة من القوى الثورية المسلحة من جهة، وعدم ثقتها بالنظام وحلفائه من جهة ثانية، وعدم وجود ضمانات روسية حقيقية وضوابط محددة وآليات واضحة لمنع تجاوز الاتفاق المزمع إبرامه من جهة ثالثة، وجود مصالح شخصية لقادة قوات النظام بإطالة أمد الأزمة، التي فتحت لهم باباً جديداً للاسترزاق والنهب من خلال الرشى المدفوعة من قبل الأهالي لإخراج ممتلكاتهم، (كلفة إخراج السيارة من درعا البلد تتراوح بين ألف دولار أميركي وألف وخمسمئة، وكلفة المرور الفردي عبر الحواجز تتراوح بين خمس وعشرين ألف ليرة ومئة ألف ليرة سورية حسب حمولة هذا الشخص)، كل هذه عوامل ساعدت وتساعد في إطالة الأزمة دون حلول.

بنود الاتفاق الأول

نورد فيما يلي بنود الاتفاق الذي تمّ تسريب صورة عنه للتداول العام:

  • تسليم السلاح المتوسط والخفيف كاملاً، وكل من يخبّئ بارودة أو سلاحاً يتحمل مسؤوليته وتلغى تسويته ويلاحق كاملاً.
  • نشر الأمن والنقاط في درعا البلد لتحقيق الأمن والأمان.
  • تسوية أوضاع المطلوبين في درعا البلد والمخيم والسد.
  • إعطاء أسماء الذين خرجوا من درعا البلد مع سلاحهم.
  • سحب السلاح كاملاً من المجموعات، بما فيها المجموعات التي تعمل مع الأمن وغيرها من القوات الرديفة.
  • كل متخلّف عن الخدمة الإلزامية يُعالج وضعه خلال 15 يوماً من خلال شعبة التجنيد للتأجيل.
  • العسكري الفار من الخدمة يلتحق بوحدته بعد إجراء التسوية، ولا يلاحق قانونياً.
  • في حال رغبة أحد بالخروج إلى الشمال، يمكن تأمين خروجه وإيصاله إلى الشمال.
  •  إطلاق الإساءات والتصريحات غير المسؤولة والتحريضية على وسائل التواصل الاجتماعي سيلاحق قانونياً.
  • عند الانتهاء من التسويات وتسليم السلاح وعودة الحياة الطبيعية إلى درعا البلد، ستُزالُ كافة الحواجز، والسواتر ستكون بحكم المزالة.

القسم التنفيذي من الاتفاق:

  • اليوم تسليم السلاح تاريخ 2021/7/24.
  • غداً استكمال جمع السلاح تاريخ 2021/7/25.
  • بعد غدٍ إجراء التسويات في درعا البلد من خلال حاجز السرايا تاريخ 2021/7/26.
  • اليوم الثالث يتم نشر الأمن في درعا البلد من خلال النقاط والحواجز يوم 2021/7/27.
  • بعد انتشار الأمن، فتح النقاط والطرق والسواتر كاملة2021/7/28 .

 

التوقيع: اللواء رئيس اللجنة العسكرية / أبو أنس / أبو شريف المحاميد / أبو سمير/ أبو منذر الدهني.

تم ذلك بالتوافق مع جميع أعضاء اللجنة.

موقع الروس في الجنوب

لم ينتهج الروس منذ تدخّلهم المباشر في سوريا، سياسة موثوقة تجاه الأعداء المفترضين، الذين حاربوهم ومن ثمّ عقدوا معهم اتفاقيات التسوية والمصالحات. لم تفِ روسيا بأي تعهّد قطعته على نفسها، وبالتالي فقدت الثقة بكونها قادرة على فرض رؤيتها للحل عند الأطراف المحليّة على الأقل.

لو أرادت روسيا إنهاء الصراع فعلاً في الجنوب، لقامت منذ اليوم الأول للتسويات بتوسيع ملاك اللواء الثامن وفرضه على النظام بالقوّة، ولكانت أنشأت إلى جانبه عدّة ألوية أخرى ضمّت في صفوفها جميع شباب الجيش الحر سابقاً وجميع عناصر الفصائل المسلّحة، لكنها لم تسعَ للقيام بذلك، ظنّاً منها أنها قادرة على مسك العصا من المنتصف، بحيث تستخدم الإيراني فزّاعة بوجه الغرب وورقة للمساومة عليها معه، وبحيث تبقي لها موطئ قدم من خلال القوى المحلية من سكان المنطقة، هذه القوى التي ترى في روسيا أهون الشرّين. لقد كانت أوراق التسوية المطبوعة والمقدّمة للمطلوبين إلى خدمة العلم أو الخدمة الاحتياط وكذلك للمنشقين، تعطي المتطوّع ثلاثة خيارات:

  1. اللواء الثامن التابع للفيلق الخامس.
  2. أحد فروع الأجهزة الأمنية.
  3. الفرقة الرابعة.

هل يعقل أنّ دولة بحجم الاتحاد الروسي غير قادرة على تأسيس جيش كامل من أبناء المنطقة؟ هل تعجز روسيا عن تمويل هذا الجيش، أو على الأقل عن تأمين تمويل له من دول الخليج العربي التي كثير منها لن يمانع؟ هل يعقل أنّ التفكير الاستراتيجي الروسي لا يدرك أنّ عدم دفع رواتب ومخصصات اللواء الثامن منذ أربعة أشهر هو بمثابة إطلاق المرء الرصاص على قدميه؟

الحقيقة أنّ المخابرات السورية استطاعت شراء ذمم الضباط الميدانيين الروس بشكل عام من خلال الرِشى، ومن لم تتمكن من شرائه أغرقته بالتقارير الكاذبة المزيّفة عن واقع الحال في الجنوب. دفع هذا كلّه القيادة الروسية المركزية إلى استبدال قادتها الميدانيين كلّ ستة أشهر، والآن تقلّصت الفترة إلى ثلاثة أشهر فقط. يقطع هذا الإجراء جميع فرص تراكم العلاقات واستقرارها من جهة، ويقضي على المصداقية من جهة ثانية.

بغضّ النظر عن موقفنا من التدخّل الروسي لصالح النظام في حربه ضدّ الشعب السوري، وبغضّ النظر عن الجرائم الخطيرة والانتهاكات التي ارتكبتها القوات الجوية الروسية وميليشيا فاغنر التابعة لها، فإنّ السياسة تقتضي منّا التمييز بين احتلال يمكن جلاؤه وهو الروسي، وبين احتلال سيكون أخطر من الاستيطان الإسرائيلي بعشرات المرّات وهو الإيراني. والمفاضلة بين احتلالين ليست قبولاً بأيّ منهما، لكنها وسيلة لتحييد الخصوم وترتيب الأولويات.

آفاق تطوّر الأزمة

قد يكون هناك فائدة من إطالة أمد الأزمة ولو على حساب معاناة المدنيين، فيمكن أن تسفر الضغوط عن تفاهمات دولية لدعم الموقف الروسي في اجتماع مجلس الأمن، بحيث يؤدّي ذلك إلى منحها الضوء الأخضر لإعادة تشكيل القوى المسيطرة في الجنوب. ويمكن أن يؤدّي تقاطع المصالح المحلية والإقليمية والدولية إلى تشديد الضغط على إيران للخروج من الجنوب. كما يمكن أن يكون هناك اتفاق جديد يعدّل الاتفاقيّة السابقة التي تمّ بموجبها إلزام الجنوب بروسيا، مقابل تعهّدها بإبعاد الإيرانيين عن حدود إسرائيل عدّة كيلومترات معلومة. قد يكون هناك تطوير لطروحٍ بدأت تظهر للعلن، وأخذت تلقى بعض القبول الشعبي، عن مشاريع للإدارة الذاتية للمنطقة الجنوبية، ضمن إطار وحدة الأراضي السورية، ووفق معايير الإدارة المحلية المنصوص عليها في قانون خاص ساري المفعول منذ العام 1974 في سوريا. وقد يكون هناك قبول لفكرة منطقة عازلة أو منزوعة السلاح أو منطقة خضراء أو منطقة محميّة دولياً، بحيث يتمّ إعادة إعمارها وإعادة اللاجئين من الأردن ولبنان إليها قبل البدء بالحل السياسي النهائي، وهو ما يمكن قراءته من مصطلحات التعافي المبكّر التي بدأ استعمالها بعد لقاء الرئيسين الأميركي والروسي في جنيف.

مع ذلك، تبقى مخاطر الحرب واجتياح البلدة القديمة من درعا وما يتبعها من أحياء قائمةً، وهذا سينهي آخر معاقل الأمل في الجنوب، كما سيهدم آخر أسس الرمزيّة الأسطورية للثورة السورية.

هل انتصر الأسد على سوريا والسوريين، هل انتصر على أبيه الذي أورثه قطعة من الشرق فاعلة في محيطها فحوّلها إلى دولة مهزومة من داخلها بدل أن تكون موطناً لأهلها؟ قد تكون هذه المحنة لأهلنا في حوران وفي القلب منها درعا البلد، آخر فرصة لإعادة تشكيل الحلم بالانتقال من عهد إلى آخر، واللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمرِهِ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعلَمُون.