icon
التغطية الحية

خطاب ما بعد الكولنيالية.. الأدب الروسي ليس بريئاً

2022.07.18 | 17:53 دمشق

الأدب الروسي
+A
حجم الخط
-A

أثار استياء الدوائر الأكاديمية والثقافية قبل أشهر قرار إحدى الجامعات الإيطالية إلغاء دورة دراسية عن أعمال الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي، قبل أن تتراجع الجامعة عن قرارها الذي رأى فيه عدد لا يستهان به من الكتاب والنقاد "روسوفوبيا"  Russophobia تشبه إلى حد كبير الإسلاموفوبيا التي تجتاح العالم منذ أحداث  أيلول 2001.

غير أن نظرة أخرى إلى الأدب الروسي، بما فيه أدب فيودور دوستويفسكي نفسه، ربما تشرح الدوافع وراء هذا القرار، وهي تتصل بمواقف دوستويفسكي المحافظة، ولاسيما نقده للقيم الليبرالية الغربية، وهي الأسباب التي أخفقت الجامعة في توضيحها، وأسهم في حجبها الحملة الإعلامية التي تعرضت لها. إن ما نبهنا إليه قرار الجامعة الإيطالية أن الأدب الروسي مثله مثل أي أدب آخر منغمس في السياسة، وأن من الضروري قراءته وفق آليات خطاب ما بعد الكولونيالية، بعد أن بقي بمنجاة من مشرط النقد.

 

دوستويفسك
دوستويفسكي (1821 - 1881)

 

مع دراسات ما بعد الكولونيالية لم يعد الأدب بريئا في نظر النقاد كما كان سابقا، بل أصبحت قراءته من خلال علاقته بالسياسة واجبة من أجل اكتشاف القارئ المضمر  والأنساق الثاوية داخله. ولهذا عمل نقد ما بعد الاستعمار على تفكيك وسائل الخطاب الاستعماري في خلق صورة للسكان المستعمرات تسمح للمستعمِر بادعاء التفوق الأخلاقي والمعرفي الذي يبيح له السيطرة عليهم، ونقلهم من عالم البرابرة إلى عالم التمدن. هذا هو جوهر كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد على سبيل المثال. ولكن هذا النقد توجه في المقام الأول إلى الأدب المكتوب بالإنجليزية والمترجم إليها. ولهذا بقيت دراسات ما بعد الكولونيالية حول الآداب الأخرى قليلة، الأمر الذي لم يؤد إلى فحص النتاجات الأدبية التي كتبت بتلك اللغات بغية اكتشاف الخطاب الاستعماري فيها.

لهذا لم يحظ الأدب الروسي بقراءة تبين آثار النظرة الاستعمارية والمركزية الأوروبية المتغلغلة في نصوصه. يعود سبب هذا القصور إلى أن النقاد نظروا إلى روسيا من خلال البروبوغندا الشيوعية التي كرست صورة الحمل الوديع لروسيا، وغرست في اللاشعور أن روسيا لم تكن بلدا استعماريا كبريطانيا، لأنها بلد ينتمي إلى العالم الثاني الذي يقع على هامش المركزية الأوروبية، وهو ما يعني غياب الخطاب الاستعماري في الأدب الروسي.

لكن قراءة التاريخ الروسي الذي بدأنا نتعرف إلى بعض أحداثه المفصلية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، تظهر أن التصور السابق كان تصورا خاطئا، فعلى الرغم من أن روسيا لم تذهب بجيوشها إلى بلدان بعيدة في أفريقيا وآسيا، فإنها احتلت مساحات واسعة من أراضي آسيا الوسطى والقفقاس (القوقاز) وأوكرانيا. وفي إطار هذا التوسع الإمبريالي خدم الأدب الروسي، مثله مثل أي أدب آخر، التصور الاستعماري في المناطق التي احتلتها روسيا.

إن تمثلات الآخر الآسيوي لدى ليرمنتوف، على سبيل المثال، تكاد تكون مطابقة لتمثلات الآخر في الأدب الإنجليزي، إذ يصور ليرمنتوف في روايته الشهيرة "بطل من هذا الزمان" القفقاسيين بأنهم أشخاص خبثاء، جشعون، يتكلمون لغة غير مفهومة، لا تستطيع أن تفهمها إلا الثيران. وفي موقع آخر، ينظر إليهم على أنهم مجموعة من الأغبياء الذين لا يستطيعون تكلم اللغة الروسية. وفي الرواية نفسها، يكرر فكرة أن الشركسي كائن جشع، عديم الشرف، يصل به جشعه إلى خطف أخته ومبادلتها بحصان، كذلك فإن الفتاة الشركسية نفسها لا يستهويها الفتيان الشركس، فتقع في غرام الضابط الروسي الوسيم، وهي صورة سيكررها بوشكين في قصيدة "أسير القوقاز"، وهي تصورات تكاد تكون منقولة عن الخطاب الاستعماري الأوروبي في رؤيته للعلاقة بين الرجل الغربي والمرأة في البلدان المستعمرة في أميركا اللاتينية وآسيا.

 

بوشكيين
بوشكين (1799 - 1837)

 

ويبلغ هذا الاستعلاء الإمبريالي ذروته في قصيدة "القوقازي" التي يلمح فيها ليرمنتوف إلى أن القوقازيين ليسوا هم السكان الأصليين لمنطقة القفقاس، بل هم الجنود الروس الذي احتلوا المنطقة في بدايات القرن التاسع عشر. أما بوشكين فلا يجد حرجا في الادعاء بأن الفتيان الشركس الذين يؤخذون رهائن في القلاع الروسية، منعا لعصيان الشركس، لن يأسفوا على حياة الأسر لاحقا. إن حياة الأسر لدى الروس في نظر بوشكين أفضل من الحرية بين الأصدقاء والأهل.

غالبا ما تحجب الرواية الروسية في القرن التاسع عشر، والتقريظ النقدي الذي تلقته، أعين الدارسين عن رؤية الجانب المظلم في ذلك الأدب: النزعة الإمبريالية أو نزعة الهيمنة واستباحة الآخر التي تكاد تكون سمة مسكوتا عنها

خلف الصورة المثالية لليرمنتوف، بوصفه شاعرا ينتمي إلى التيار الرومانسي، تقبع صورة المحارب الذي صور شعوب القفقاس من وجهة نظر الإمبراطورية التي كان يقاتل في صفوفها. فقصيدة "الراهب المبتدئ" تتحدث عن راهب قوقازي أسره ضابط روسي في طفولته، والقصيدة تفيض بمشاعر اليأس، فالتاريخ المجيد لشعوب القفقاس أصبح من الماضي الذي لن يعود، وحنين الراهب إلى الماضي لا يدع مجالا للشك في أنه ينتمي إلى الجانب المهزوم في المعركة. وبوشكين ذاته يرى أن روح الفروسية لدى الشركس قد انحسرت بعد أن ألحق بهم الروس هزائم متتالية، ولكن هذا مسوغ برأيه، فهم على كل حال يعاملون أسراهم الروس معاملة فظيعة، ويوصي من أجل هزيمتهم الكلية بإرسال المبشرين المسيحيين وتحويلهم إلى المسيحية. وفي قصيدة أخرى لليرمنتوف، يصور اغتصاب الجنود الروس لامرأة قوقازية، من دون إظهار أي تعاطف مع الضحية.

 

ميخائيل
ليرمنتوف (1814- 1841)

 

غالبا ما تحجب الرواية الروسية في القرن التاسع عشر، والتقريظ النقدي الذي تلقته، أعين الدارسين عن رؤية الجانب المظلم في ذلك الأدب: النزعة الإمبريالية أو نزعة الهيمنة واستباحة الآخر التي تكاد تكون سمة مسكوتا عنها. إن السردية الروسية لم تخضع للفحص كباقي السرديات الاستعمارية بسبب المراوغة التي يتسم بها النص الأدبي، فالأدبية حجبت المضمر السياسي الإمبريالي، وذلك من خلال الادعاء بأن الأدب الروسي يتناول قضايا إنسانية مجردة.

وغالبا ما يشار إلى رواية الإخوة كرامازوف على أنها نموذج لهذا الأدب المغرق في ابتعاده عن أدران السياسة. وحتى في أثناء الإشارة إلى "السياسي" داخل "الأدبي" يقال إن الصراع داخل هذا الأدب هو بين النزعتين الأوربية والسلافية، والحقيقة أن الأدب الروسي انعكاس واضح لتلك الخصومة الفكرية، ولكنْ خلف هذا النزاع الفكري يلتقي التياران حول خطاب قومي يقر بضرورة هيمنة الإمبراطورية الروسية على الشعوب المجاورة، ففي كتابه "رحلة إلى أرضروم"، والذي يصور في جزء كبير منه الحملة العسكرية التي اشترك فيها بوشكين ضابطا، نلاحظ رغبة واضحة بتحويل الحرب والعدوان والعنف إلى قضايا رومانسية، وسكوتا تاما عن نتائج الحرب وقسوتها ، بل سنرى تمجيدا لانتصارات الجيش الروسي على البرابرة.

لا يعني ما سبق أن الأدب الروسي يقف وراء نزعة العدوان الروسية التي نراها في سوريا وأوكرانيا، والتي سبق أن شاهدها العالم في أفغانستان والشيشان وجورجيا، ولكن من السذاجة الاعتقاد بأن الأدب بريء من النزعة الإمبريالية التي هيمنت على الخطاب السياسي الروسي لعقود طويلة، ففي أثناء ثورات عام 1848م التي اجتاحت أوروبا، صرح الشاعر الروسي فيودور تيوتشيف بأن روسيا هي الحصن الذي يمنع الديمقراطية المؤذية من الانتشار، وهو قول سيتكرر بطريقة أخرى على لسان الرئيس الروسي بوتين الذي فاخر بأن طائراته أوقفت الربيع العربي في سوريا.

لا يختلف الباحثون على أن تصورات بريطانيا الفكتورية عن الهند ماثلة في كتابات روديارد كبلنج، وأظن أن الأمر نفسه ينطبق على الأدب الروسي، فرؤية روسيا لمحيطها الجغرافي حاضرة في أشعار بوشكين وكتابات ليرمنتوف وروايات دوستوفيسكي.