icon
التغطية الحية

أنور عمران "دوستويفسكي" وأنا

2022.03.31 | 10:45 دمشق

anwr_mran-_tlfzywn_swrya.jpg
+A
حجم الخط
-A

قبل أربع سنوات، تداول الجمهور قصيدةً نثرية بعنوان "أنتِ" منسوبة للروائي الروسي "دوستويفسكي" صاحب الجريمة والعقاب، المقامر، مذلون مهانون، الإخوة كارامازوف وروايات كثيرة غيرها. انتشرت القصيدة مئات آلاف المرات، حتى إنها وصلت إلى إحدى المحطات الفضائية. بإعجابٍ وحفاوة شديدة تناولها كل من حطّتْ لديه، وهي تستحق فعلاً:

في الشارع الذي تقيمين فيه

هناك تسع نساء أجمل منك،

وخمس نساء أطول، وسبع نساء أقصر

وواحدة تحبني أكثر مما تفعلين

ولكني أحبك أنت.

في الوظيفة امرأةٌ تبتسم لي

كلما طار الكنار المرسوم على غلاف مُفكّرتها،

وأخرى تدسُّ شوكها في كفي.

النادلة في المقهى، تضع العسل بدلاً من السكّر في الشاي،

والبائعة تقول لي: لا تشترِ التفاح من غيرنا.

ولكني أحبك أنت..

لا أعرف كيف يولد الحبّ؟

كيف يضع شخصين على شمس واحدة؟

أو يوزّع الليل نجمةً نجمةً بينهما؟!

ولا أعرف لماذا ترك قلبي جارتك والبائعة والنادلة

لكني أعرف أني أحبك أنت.

شكراً لأمّكِ، لأنها اختارت أباكِ

شكراً لأبيكِ.. لأنه أحبَّ أمك

فجئتِ كما أنتِ.

حقيقة القصيدة أنها للشاعر السوري أنور عمران، منشورة في ديوانه "أسند ظهري إلى الرياح" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2017. شخصياً، سأعلم أن الشاعر بعد فترة استياء أولى مفهومة، كان يبتسم، كلما قرأ اسم الروائي الروسي على قصيدته، وهي تتطاير بين ناشري مواقع التواصل. كانت قصة قصيدته "أنتِ" التي نسبت إلى دوستويفسكي وحدها كافية، بالنسبة لي، لتدلل على زهد الرجل. يتناول الأمر بسخرية، ولا يحرك ساكناً لتصحيح الخطأ، فيتولى آخرون الأمر عنه، ينجحون أحياناً ويفشلون غالباً. بدت القصيدة وكأنها فخ نُصب للقراء، حتى إن مثقفين وفضائيات قد تورطوا بها.

قصيدة أدهشت القراء، فاحتاجوا لاسم كبير، من العيار الثقيل لينسبوها له. رغم نجاحه، فإن من فعلها لم يوفق كثيراً. لم تسعفه ثقافته فقام بنسبها وإلصاقها بالروائي الروسي فيودور دوستويفسكي. كان من الحصافة، ربما، أن ينسبها للشاعر بوشكين مثلاً، هناك آخرون نسبوها لمحمود درويش وغسان كنفاني وغيرهما. الأطرف كان أن أحدهم نسبها لنفسه. حتى عموم الجمهور، ممن لم يسمعوا سابقاً باسم دوستويفسكي، أحد أهم الروائيين الروس في القرن التاسع عشر، عرفوا اسمه، على عجلٍ، عبر قصيدة أنتِ. وهكذا أصبح دوستويفسكي شاعراً يسرق القصائد، ولم يعد من المستغرب، على وسائل التواصل الاجتماعي، أن نجد بوشكين وقد أمسى قائداً عسكرياً. عرف القصيدة وقرأها عشرات الآلاف منسوبة لروائي، والشاعر يقيم صامتاً في شمال الأرض. مرّةً تحرّشتْ به إحدى القنوات التلفزيونية فكسرَ صمته: "عندما ملأت القصيدة وسائل التواصل، شعرت أنها أفلتت واكتسبت أجنحة، لكن لا بد للقراء أن يعرفوا في النهاية شاعرها الحقيقي". هكذا ببساطةٍ، يترك الأمر للزمن كي يفعل فعله.

الشاعر السوري أنور عمران أعاد لي شغفي القديم فقد كنت في مرحلة طويلة من حياتي مُصابٌ بالإدمان على حفظ وتلاوة الشعر

في حقل الإبداع، هناك كثير من الشعراء والأدباء ومنتجي الفنون عموماً، ممن يفشلون في تسويق أنفسهم، أما أنور فهو لم يفعل أساساً لنحكم عليه أنه فشل أو نجح. لم يسوق نفسه، ولم يسوقه أحد. معتزلٌ، وله بضعة أصدقاء مبعثرين، أفترض أنني أحدهم. أنا؟ صديقه؟ التقينا أنور وأنا مرة واحدة خلال الحياة. جلسنا نشرب الشاي، على مقاعد خشبية عتيقة في مقهى على ضفّة البوسفور في إسطنبول. تحدثت أكثر منه، وهذه ليست من عاداتي، لكني خمّنتُ أنه كان يخبئ قصيدة في فمه. أكبره بعقد ونيّف، ويكبرني ببضع قصائد مدهشة، إن جاز للأعمار أن تُقاس بالقصائد بدل السنوات. فمن أين لي أن أجيد قوله:

ألحبُّ

هذا الغريبُ كأجنحة الملائكة،

هذا الخفيُّ كالجدوى من الحياة،

هذا الخفيفُ كالطيرانِ في الحلم،

وهذا الثقيلُ كدمعةٍ في عين طفل،

لا تبحث عنه، فهو يكرهُ اللحوحين، ولا يحبُّ أن يُكنّيه أحد،

ولا تنتظره، فهو لم يأتِ أبداً على موعدٍ،

ولا تستعجله، فهو هادئٌ، وينتظرُ وردتكَ الخصوصيّةَ كي تكتمل.

ومن أين لغيره أن يودي بي إلى قعر الطفولة، وهو يكتب عن الجميلات بعذوبةٍ: "الجميلاتُ اللاتي يمتن باكراً، قبل سِنّ الكرز، ونتذكّر أساورهنَّ كلما خشخش الخريف". نتحدث على الهاتف أحياناً، وفي كل مرّة نتواعد أن نلتقي عندما نمتلك جوازات سفر غلافها ليس كحلياً إلى تلك الدرجة التي تزعج موظفي المطارات. ها أنا أعود بعد قطيعة طويلة مع الشعر. قصيدته التي تم تداولها، لم تكن هي التي أعادتني لقراءة الشعر، بل قصيدة أخرى. قصيدة أعتبرها شخصياً، من أجمل ما قرأت في العقد الأخير، ولو أردت التطاول وادّعيت متابعة كل ما نشر، لقلت إنها أجمل قصيدة نثر كتبت في العقد الأخير "العسكري الجميل كهبوب أيلول". القصيدة تتناول جندياً من أولئك الذين كنا نصادفهم على الحواجز في أحيائنا ومدننا السورية بعد عام 2011.

العسكريُّ الساكن في حديقة بيتنا..

العسكريُّ الجميل كهبوب أيلول، والطويل كزيارة مفاجئةٍ.

في الليل كان يستند إلى بندقيته، ويمحو رسائل أهله بالدموع.

ويحدث أحياناً أن ينسى الفرق بيننا، فيشرب الشاي،

ويحدّثني عن عادات أمّته، وأسمائهم التي ترنُّ في البال كالصبّار.

هو عاشق مثل كل فتيان حيّنا، ولكن يكبرهم بعشرين طلقة.

مرّةً لم تتذكر الفصيلة طعامه،

فسال الخجل من لحيته وهو يقترب من تنّور أحلامنا

ومرّةً، شكَّلتُ غصن زيتون بخوذته

فانتفض جرسٌ صغير في قلبه، وألّف أغنية.

العسكري المرابض على حدود حديقتنا في أوقات فراغه

يفرك كفيه بالورد ثم يتنهد فجأة:

"عذبة هي الحياة.. كأغنيات الريف،

لكنّ عمري أقصر من عسلٍ (يزنِّر) خصر البلاد".

وفي الليل يُلمِّع حربته، ويغرزها في السياج الفاصل بين موتهِ وموتنا.

سألته: متى تنتهي الحرب؟ فأجابني: متى تنتهي الحرب؟

وأغلق (درفة) الليل على حلمه.

هو من طينٍ مثلنا، ويعشق رائحة البُنّ والغناء

يدخن بتلذذٍ سيجارته.. ويدهسها بغيظ

ثم يحدّقُ بالعصافير التي تطير إلى قريته البعيدة.. ويلوّح لها.

ولا أحد ينصت إليه في الليل،

وهو ينتحب تحت بطّانيته، ويعرّي شياطينه واحداً واحداً.

لا تعنيه الإشاعات التي يطلقها الرعاة، لكنه يلعب مع الأطفال كرة القدم.

وحين زادوا مُرتَّبه، اشترى لأولاد الحيِّ تفّاحاً، ولقلبه عوسجة.

قالوا له: في بيتنا مسدّس، لكنه تفاجأ حين وجد طفلتين، ورفّ حمام.

مرّةً أحب بنتاً من حارتنا، ولأن قواعد الحرب تمنع الزواج بين القاتل والقتيل

اتَّكأ على سبطانة روحه.. وكشَّ الأحلام.

العسكري الساكن في حديقة بيتنا.

الساكنُ، كأغنيةٍ ميّتة، شاهدته يُمشِّط بنت جارتنا، ويبكي:

قد أقتلكِ إذا أُمِرْتُ.. فلا تؤاخذيني!

ما زالت قصيدة النثر تبدو لبعضهم مطيّة سهلة، وبسبب هذا الاستسهال، باتت كالتجريد في الفن التشكيلي، تحتمل أن تنطوي على كثير من أشكال التلفيق. بينما نجدها كعِرق الذهب عند عمران. موسيقا خالصة، من دون حرف واحد يتعثر في الانسياب أو النبْر. بسيطة لدرجة أنها تبدو من يوميات الحديث، ربما لهذا هي مدهشة. نصوص على بساطتها تلك، فإنها بالغة الثراء، والثراء هنا ليس لغوياً، لكنه فكرة تسري مع النبض. كأن أنور يُقشِّر عن (مفردات الشعر) ما شابها من زخرفات التكلف ليعيدها إلى بساطتها الطفولية. كلمات تسير حافيةً فتصل.

نعم. الشاعر السوري أنور عمران أعاد لي شغفي القديم. فقد كنت في مرحلة طويلة من حياتي مُصاباً بالإدمان على حفظ وتلاوة الشعر. وفي طريقه، أعادني مرغماً أيضاً، لأقرأ لشعراء غير مكرّسين (غير مكرسين كأسماء، في داخلي على الأقل)، بعد هجران مغامرة القراءة لشاعر جديد، صِفة "الجديد" هنا ذاتيّة، تناسب العِتْق الذي أورثتني إياه السنين. منذ زمن طويل لم أعد أثق بالشعراء الجدد، وجاء هذا الرجل ليورطني بهم من جديد. سأشعر بعد اكتشافي هذا بالخجل الشديد: كم كنت مأخوذاً بالأسماء المكرّسة، وكسولاً في اكتشاف الطزاجة.

هل يمكن وصف القصيدة بأنها نبيلة؟ لستُ متأكداً. ولكن بأي مفردة نستطيع وصف قصيدته، وهو يخاطب صديقه المنحاز إلى صفّ القاتل؟

حتى وأنتَ تمدحُ قاتلي

أستطيعُ أن أكونَ صديقكَ.

أستطيعُ أن أدعوكَ إلى كافيتريا، في منطقةٍ محايدة

ويمكننا هناك، أن نرثي أقاربَنا من الطرفين.

حتى لو أنَّ أمكَ تزغردُ

حين تقصفُ الطائراتُ حارتنا.

سأظلُّ أقولُ على الهاتفِ لها:

صباحُ الخير يا أمي!

قصيدة فيها واحدة من أنبل وأعقَد الرسائل عن حلمنا في البدايات. قصيدة تتجاوز ما خلّفت وقائع الأرض من كدماتٍ في الروح. لغةٌ صادمة ولكنّا سنقبلها بطيب خاطر، بل وبقليل من الفرح. قصيدة تشعرك بالضآلة وأنت ترنو إليها: يا الله كم هي بالغة العلوّ. قصيدة تؤنبنا على صغارنا لشدّة ما تحمل من حسٍّ إنساني. تؤنبنا على مشاعر بغيضة قد تكون انتابت بعضنا في لحظات موت أهله أو من يحب. ولكن هل نحن ملائكة يا أنور؟ إننا بشر عاديون، ولدنا وعشنا على حوافّ الحروب والموت. نشتمُ الحرب حين نخسرها، ونطرب لصوت رصاص انتصارنا. ومع ذلك فإن قصيدته ستُردي علينا شرشفاً أبيض كالذي يغطون به الجثث.

إن كنتَ تستطيع التواطؤ، فتقبل أن "هبوب أيلول" يصلح وحدةً لقياس الجمال، والزيارة المفاجئة لقياس الطول، وأن الكرز والمشمش يصلح لقياس أعمار الجميلات، فستورثك القصائد إحساساً معقّداً، هو مزيج من نشوةٍ مع ألمٍ غير قابل للتفسير. على عكس معظم قصائد النثر، فإن قصائد أنور لا تُقرأ بصمت، بل بالترنيم، ويغريك بأن يكون لديك مستمع واحد على الأقل. عندئذ سوف تمنِّنه بما تتلو عليه. وكوصفة للقراءة، حاول أن تبتعد أمام مستمعيك، عما يثير حروب القبائل في شعر عمران، وفي قصائده الكثير مما يكدِّر الأتقياء وروّاد الخلق القويم. ليس الابتعاد هنا جبنٌ، رغم أن لدى معظمنا بعضه، ولكنّه فعلٌ حكيم تتفادى بهِ أن يدير القارئ ظهره لروح القصيدة ويذهب باتجاه المعركة.

لمَ أكتب هذا؟ هروبٌ من يومياتنا السورية المريرة؟ ربما. لمَ لا. ولكني أخمّن أكثر أني أردت القول: هناك شاعر جميل لم أكن لأنتبه له لو تابعت كسَلي. قصدتُ، أن أنتبه له بما يكفي لأحتفي وأفرح. مثلكم جميعاً، أخذتني قسوة الحدث السوري المستمر، ونسيت أن أقول لبعضهم شكراً لأنكم تفعلون ما تفعلون. لست ناقداً أدبياً، ولا أرغب أن أكون، وأكثر ما سيشعرني بالخيبة لو اعتبر أحدهم ما أكتبه هنا نوعاً من ذلك. وعلى سبيل البوح، سوف أعترف أنني لم أستطع الإلمام يوماً، بأية مدرسة نقدية قرأت عنها. بالكاد بإمكاني الزعم بأني قارئ للشعر، لم يختبر نفسه من قبل بهذا النوع من الكتابة عن قصائد الشعراء، كما أفعل الآن، ولا أدري إن كنت سأنجح هنا، بعد غيابي الطويل. قد يكون أفضل تعريف لي في هذا المقام، هو القول ببساطةٍ طفولية: إنني أحب الشعر. لكنني أحبه بصعوبة. كيف يمكن شرح ذلك؟ حسناً. لأقل إنني أحبه حين أكون مرغماً. ويحدث هذا، عندما لا يترك لي الشاعر فرصة إلا أن أحب قصيدته. أنور عمران حاصرني وفعلها.