خطاب الشغري.. صوت المغيبين من السوريين 

2022.07.10 | 06:54 دمشق

الشغري
+A
حجم الخط
-A

تناول كثيرون ما قاله عمر الشغري، في كلمته التي قدّمها في مجلس الأمن بتاريخ 29 حزيران الماضي، حيث توزعت آراء السوريين بين ثلاثة اتجاهات: الأول، وهو رأي أكثرية السوريين، وفحواه تأييد ما قاله الشغري والشعور بالسعادة لرنين كلماته، التي عبرت عما يجول في خاطرهم ووجدانهم، لكونهم تعرّضوا لمختلف أشكال الفظائع التي ارتكبها الطاغية الأسدي بحقهم من اعتقال وقتل وتهجير وغيرها، والثاني، تأييد مع استدراك، بمعنى أن ما قاله الشغري جيد، لكن ما قاله ليس في المكان المناسب، بل ذكر بعضهم أن كلماته لا تحتوي على برنامج سياسي، أو ليس كلامًا سياسيًا، والثالث، رفض ما قاله من حيث المكان والمضمون، حيث لخص مضمونه بعبارة، ما هكذا تورد الإبل، بمعنى أن كلامه كان استدرارًا للعواطف واستثمارًا في آلام السوريين، وليس كلامًا سياسيًا.

قبل تناول ما قيل حول الكلمة القصيرة، لا بد من المرور قليلًا على سيرة هذا الشاب: فهو من مواليد 1995 في بلدة البيضا/ بانياس، اعتُقل وعمره لا يتجاوز ستة عشر عامًا، في بدايات الثورة السورية، وشهد وهو في ذلك العمر أفظع صنوف التعذيب، وخبر بحسه الفطري دوافع ذلك التعذيب، حيث "العقوبة تتضاعف حسب الاسم والجغرافيا"، وكيفية اغتصاب النساء وحتى الرجال، ومقدار الإهانات التي لا تُحتمل، وشهد أيضًا موت أحد أقاربه نتيجة التعذيب المفرط، وعلم بالمجزرة الشهيرة التي وقعت في بلدته وراح ضحيتها نحو 250 إنسانًا، وهو في المعتقل، وهي المجزرة التي وثقتها منظمات عدة (هيومن رايتس ووتش، منظمة العفو الدولية والشبكة السورية لحقوق الإنسان)، كمجزرة ذات عمق طائفي واضح. فعمر الشغري هو ابن لتلك الفظائع، والمعجب بصوت الهتافات الأولى المطالبة بالكرامة والحرية من دون أن يدرك حينها معناها ومآلاتها، لكنها حفرت عميقًا في ذاكرته ووجدانه.

على هذه الأرضية، يمكننا فهم كلمات الشغري والتعامل معها، كصوت حقيقي للناس الذين تعرضوا للفظائع، وليست كبرنامج سياسي أو خطة سياسية لخلاص سوريا، التي يقف فيها منتقدوه وأحزابهم وتشكيلاتهم على التواصل الاجتماعي عاجزين عن الاتفاق على أي نقاط فيها، هذا إن وجدت ثمة خطة، ومن ناحية أخرى، نقل الشغري، بأمانة، أصوات السوريين العاديين، الذين لم تسنح لهم الفرصة للتحدث على مثل تلك المنابر، لكنهم يعبّرون عن الألم الحقيقي للسوريين، وما يكابدونه من تهجير وتمييز وقهر في أماكن وجودهم، هذا الألم الذي لا تتجرأ على ترجمته والتعبير عنه عموم حركة المعارضة والمعارضين، لأسباب لا يستوعبها عمر وأمثاله الكثيرون في سوريا، الذين لا خلفيات أيديولوجية أو سياسية تؤطر أفكارهم، سوى معاناتهم وحجم الكارثة والفظائع التي ارتكبها النظام الأسدي بحقهم. وبذلك، كانت كلمات عمر صوت المغيبين والمحرومين، الصوت المعبر عن التوق إلى الكرامة والحرية.

لربما يعيش السوريون أسوأ حالاتهم من الانقسام والتفرقة، ليس بسبب الاختلافات في الرأي، وإنما بسبب الحال المزرية التي وصلوا إليها نتيجة التصارع الدولي، وتحويل الأرض السورية إلى ساحة لتصفية الحسابات، وربما لرسم المنطقة من جديد، حسب ما نراه من ترتيبات واتفاقات. والأمر المرعب هو شعور السوريين بحالة العجز المطلق عن الفعل، والاستقطابات الحادة التي يعيشونها نتيجة للخلافات الدولية وصراع تلك الدول على مصالحها سواء في سوريا أو خارجها، والاندفاع نحو التبرير لهذا الطرف أو ذاك وفق "فهمهم" للعلاقات الدولية والاستراتيجية والتكتيك، وما يجب أن يقال وألا يقال، وهو الأمر الذي يبدو أن الشغري لم يتعمق به على طريقتهم.

لربما يعيش السوريون أسوأ حالاتهم من الانقسام والتفرقة، ليس بسبب الاختلافات في الرأي، وإنما بسبب الحال المزرية التي وصلوا إليها نتيجة التصارع الدولي، وتحويل الأرض السورية إلى ساحة لتصفية الحسابات

لقد خلقت حالة سوريا عديداً من المنظمات والمراكز البحثية والتجمعات السياسية والمنافذ الإعلامية، بدعم من الدول والمنظمات الدولية، بغاية معلنة وهي تقديم العون للسوريين وتنمية قدراتهم، وهي مشكورة قدمت شيئاً من ذلك، لكن من جهة ثانية، فقد خلقت فئة من المتنفذين في هذه التشكيلات، مرتهنة لأجندة داعمها بالكامل ومبررة لأفعاله أياً كانت، فئة منفصلة عن هموم السوريين، وإذا ذهبنا بعيدًا في النظر إليها، يمكن تشبيهها بالفئة العسكرية التي بنتها الدول الاستعمارية في أواسط القرن الماضي لتتولى زمام الأمور عند انسحابها من تلك البلدان، مفرغة نضال الشعوب من أجل الاستقلال الذي حوّلته تلك الفئات إلى تصارع على السلطة، السلطة المرتهنة للخارج والمعادية للداخل، وهي تلعب هذا الدور من الآن تعبيراً عن الامتنان لداعمها وقابليتها للقيام بأدوار أخرى في المستقبل.

وفق ذلك، يمكن تفسير معنى كلمات "ليس هكذا تورد الإبل"، لوصف كلمات عمر، الذي لا يعرف أنها تورد في كبت الصوت الحق من خلال الضغط على الناس حتى في لقمة عيشهم، والتمتع ببركات الداعم وما يوفره من مظاهر ترف زائفة. باختصار، مثلت كلمات عمر الشغري صوت الأحرار، مقابل الصوت المرتهن، الذي يخاف على فقدان المزايا والنعم التي يغدق بها سيده لقاء فهمه العميق لخريطة الصراع والانتقال بين الاستراتيجية والتكتيك، وصوغ الخطط الدقيقة، وسياسة فض النزاعات وأمور الحوكمة، ولا ننسى الدقة في المراقبة والتقييم.

هناك فرق بين من يتطلع إلى الحرية لسوريا، وبين من يتعامل معها كقطاعات تستوجب الإدارة، بين من يسعى للتحرر وبناء دولة ديمقراطية ومن يسعى لإدارة شركة بمصالحه الضيقة. بين من يعيش الجرح وبين من يعتاش عليه. قد فات  هؤلاء المتذمرين من خطاب العواطف أن الشغري لم يكن يبتغي من إلقاء كلمته إقناع الدول في المجلس، إنما كان يبتغي إحراجهم وإيصال رسالة إلى الشعوب أنفسها، من خلال مخاطبة ضمير تلك الشعوب الإنساني وتبيان ما تفعله دولهم تجاه الكارثة في سوريا، فضلاً عن أنه يعي أن خطاب الدبلوماسية لم يفلح في إيقاف طاحونة القتل طيلة الأعوام العشرة الماضية.

مئة وردة لعمر الشغري، صوت سوريا، وأحد رجالها في المستقبل، الذي كشف مدى التقاعس والارتهان اللذين نغرق فيهما.