حين نبارك للناجين

2022.08.31 | 07:10 دمشق

حين نبارك للناجين
+A
حجم الخط
-A

لا يكاد يمر يوم إلا وينشغل السوريون بتقديم التهاني والمباركات لصديق أو لقريب أو لعائلة حصلت أخيرا على جنسية دولة من الدول الأوروبية والغربية التي قصدها السوريون منذ بداية العقد الزمني الماضي، وبالتحديد، منذ أن ظهر بوضوح أن النظام السوري لن يتراجع عن حله الأمني في التعامل مع انتفاضة السوريين وثورتهم، ما جعل بعض السوريين ممن يعرفون طبيعة النظام يغادر سوريا باكرا جدا، ليلحق بهم فيما بعد السوريون المهددون بالاعتقال أو الخارجون من المعتقلات بعد ما رأوا بأم أعينهم ماذا يحدث في المعتقلات، ثم السوريون الذين تعرضوا للحصار أو للقصف والحرب ودمرت بيوتهم وبلداتهم، أو احتلت من قبل ميليشيات طائفية تحارب إلى جانب النظام وتحتل منطقة تلو أخرى، أو من قبل الميليشيات الجهادية المختلفة الانتماءات والتي استقطبت مرتزقة من كل العالم وتصرفت بالمناطق التي أخذتها من النظام بوصفها قوة احتلال تفرض ما تريد فرضه من أنظمة ونمط حياة لم يكن يتناسب مع ما اعتاد السوريون عليه.

أسباب الرحيل عن سوريا كانت كثيرة خلال العقد الماضي، ولا يمكن بأي حال توجيه اللوم لمن رحل هاربا من الموت أو من الاعتقال والاختفاء، ولا لمن رحل هاربا من الحصار والجوع، ولا أيضا لمن رحل باحثا لنفسه أو لأبنائه عن مكان أكثر أمانا وإنسانية يصلح للعيش، إذ ليس مطلوبا أن يكون الجميع أبطالا، وليس في البقاء وسط كل الخراب الذي كان يحدث أية بطولة، البقاء في سوريا أو الرحيل عنها هو خيار من خيارات سكانها أو أبنائها، لا البقاء يعني بطولة وتضحية ولا الرحيل يعني هروبا وجبنا، ذلك أن الكائن البشري يملك حياة واحدة فقط، ومن أول الحقوق في شريعة حقوق الإنسان هو حق العيش الأمن. وهو ما بحث عنه السوريون بعد العنف غير المسبوق الذي تعرضوا له أو عايشوه وشاهدوه.

بدأت تغريبة أخرى للسوريين نحو أوروبا والدول الغربية، تغريبة جديدة لكن هذه المرة ليس خوفا من الموت بل خوفا من الطرد وخوفا من فقدان الأمان المفاجئ

في البداية كانت الدول الأقرب هي مطمح السوريين الهاربين، ذلك أن أملا بالعودة القريبة ورحيل النظام والتغيير المنشود كان لا يزال يترعرع في الوجدان السوري الثائر، كانت الدول القريبة أيضا تخلف انطباع الوطن، كأن المغادر لم يغادر، يمكنه العودة بسرعة حين يحين الوقت. لكن الوقت طال جدا، والجيران المرحبون تغيروا مع الوقت، وصار التضييق على السوريين ورقة تستخدم في كل المفارق السياسية في هذه الدول، هكدا بدأت تغريبة أخرى للسوريين نحو أوروبا والدول الغربية، تغريبة جديدة لكن هذه المرة ليس خوفا من الموت بل خوفا من الطرد وخوفا من فقدان الأمان المفاجئ، هل يمكن لأحد أن يلومهم على أن يتبعوا ظل الأمان أينما كان؟!

هكذا، صار السوريون يباركون بعضهم بعضا بالوصول إلى دولة من دول الأمان، كما لو أنهم يباركون بعضهم بعضا بالنجاة، صاروا كلهم ناجين، ناجين من آلة القتل في سوريا وناجين من آلة السياسة الغادرة في الدول القريبة، وناجين من العنصرية لدى الجيران والأشقاء، وناجين من أهوال البحر ومن مجاهل الغابات، ناجين من حراس الحدود ورصاصهم الغادر، ناجين من الخوف والهواجس والفقر والجوع والمرض، فلحظة الوصول إلى دولة من دول الأمان تعني العودة إلى الحياة لمن ذاق كل ما سبق، ألا تستحق العودة إلى الحياة المباركات والتهاني؟ ما بالكم إذاً بالحصول على جنسية وجواز سفر لدولة تعرف جيدا كيف تحترم مواطنيها وكيف تعتني بهم وتقف إلى جانبهم حين يتعرضون إلى مشكلة ما أينما كانوا في العالم، وتعرف كيف تضمن لهم شيخوخة فيها من الكرامة ما يوقف هاجس التفكير بما سيحصل فيها، وتضمن لهم مستقبلا واضحا لأبنائهم مهما كانت اعتقاداتهم وانتماءاتهم. ومهما كان خوفهم من الاختلاف فهم يعرفون جيدا أن ما سيحصل عليه أبناؤهم في هذه البلاد لم يكونوا ليحلموا به في سوريا. أليس هذا أيضا سببا مهما للمباركات والتهنئة.

قرأت أكثر من مرة عن ظاهرة سعادة السوريين في حصولهم على جنسيات جديدة، وقبلها عن فرحهم بالوصول إلى العالم الآمن، قرأت اتهامات لهم بأنهم استغلوا الثورة وما حدث ليتركوا بلادهم، وبأنهم يؤكدون أنهم كانوا يتمنون دائما الرحيل عن سوريا، قرأت وسمعت اتهامات بأنهم حرقوا بلدهم وتركوها غير آسفين. والحال أن من حرق سوريا ومن دمرها ومن فعل بها ما فعل هو النظام أولا وأخيرا، كل ما حدث في سوريا هو نتيجة لما بدأه النظام واستمر فيه؛ لكن أليس هذا واضحا للجميع وبات واحدة من البديهيات المتعلقة بالوضع السوري، دعونا إذا نرى لماذا يبدو السوريون سعداء بحمل جنسية أخرى غير السورية التي يتخلون عنها غير آسفين فعلا.

لم يشعر السوري يوما أنه مواطن في وطن يضمن له أقل حقوقه، دائما كان إحساس السوري أنه يعيش في مزرعة ويقع تحت سلطة ملاكها وأسيادها، وأن عليه أن يبقى ممتنا لأن ملاك المزرعة يتيحون له حرية الحركة والحياة، ويهبونه مرتبا شهريا، ويتنعمون عليه بوجود المدارس والجامعات والمشافي. كل ما في حياته هو هبة ومكرمة وعطايا مما يجود به الحاكم المالك عليه. هل شعر السوريون يوما بغير هذا؟ يمكن هنا استثناء دائرة الفساد الأولى والمتنفعين الأقرب من النظام. أما باقي السوريين، حتى الفاسدين منهم، فهم لم يكونوا يتجرؤون على التفكير أنهم مواطنون لهم حقوق مثلما عليهم واجبات. هل مزرعة كهذه يمكن اعتبارها وطنا على المرء أن يحبه لمجرد أنه ولد فيه؟ ما معنى الوطن إذا لم يمنحك الأمان والأمل والاطمئنان والركون والحرية والحق؟ كان السوريون يعرفون هذا جيدا وهو ما جعلهم يخرجون مقتفين أثر من سبقوهم إلى الربيع العربي محاولين إعادة صياغة مفهوم الوطن، ومحاولين إرجاع الوطن إلى ماهيته وحقيقته، لكنهم اكتشفوا أن الوطن كان مستلبا أكثر مما يظنون، وأنهم في مقاييس السياسية والمصالح الدولية لا قيمة لهم، سيتركون في العراء وحدهم يعاقبون بإجرام لم يسبق له مثيل لمجرد أنهم أرادوا التغيير.

ما الذي يجعل السوريين الذين ظلوا متمسكين بحقهم بالعيش في سوريا حتى اللحظة يبحثون عن سبل للخروج أو يهربون أبناءهم بعيدا عنها غير إحساسهم بأن سوريا ليست لهم

لماذا كان عليهم أن يتمسكوا بهذا المكان البائس إذاً؟ ألكي يقال عنهم إنهم أبطال ووطنيون؟! ما معنى كلام كهذا إن كان الموصوف به سوف يعيش حياة كلها ذل وفاقة وإهدار كرامة؟ ما الذي يجعل السوريين الذين ظلوا متمسكين بحقهم بالعيش في سوريا حتى اللحظة يبحثون عن سبل للخروج أو يهربون أبناءهم بعيدا عنها غير إحساسهم بأن سوريا ليست لهم فعلا ولا حقوق لهم فيها ولا كرامة.

نبارك نحن السوريين بعضنا بعضا كلما حصل أحدنا على جنسية جديدة، ليس فقط لأنه نجا من الخراب والموت لكن أيضا لأنه شعر لأول مرة في حياته أنه إنسان وأن كرامته لن تهدر تحت أقدام الوطن. نبارك لهم ونحن نأمل أن نكون أو يكون أبناؤنا وأحباؤنا في نفس المكان حيث يشعر كل منا أنه لم يعد ينظر إلى القادم بوصفه أفقا مغلقا تماما وأن الوطن هو الأرض التي تقف عليها وتشعر بأن صلابتها تحميك وتجعلك مستقرا في كل مناحي حياتك.