حين تغدو البلاد مجموعة مهاجع

2023.11.04 | 07:40 دمشق

حين تغدو البلاد مجموعة مهاجع
+A
حجم الخط
-A

المهجع كلمة متعارف عليها في سوريا على أنها الغرف الكبيرة الخالية من أي ديكور أو ترتيبات داخلية، مرتفعة الجدران، ومظلمة وخالية من النوافذ إلا بعض الشقوق الصغيرة، وأحيانا يوجد فتحات صغيرة في القسم العلوي من الجدران للتهوية، وفي بعضها هناك فتحة في السقف، غرضها المراقبة أكثر من التهوية. وعندما تُذكر كلمة المهجع، يتبادر إلى الذهن مباشرة السجون أو المعتقلات، إذ يختلف عدد المحشورين فيها تبعاً للظروف، أقلها 15 شخصاً (حالة الرفاهية والراحة)، وقد يحشَر فيها المئات، كما في سجن تدمر الصحراوي، الذي صار مثالاً لمراكز الاحتجاز والتعذيب في سوريا لاحقاً.

الحياة في المهاجع روتينية ومملة، ففي كل صباح، التفقد، فرغم معرفتهم بالوجوه والأسماء، لكنه روتين يومي للسجان والمعتقلين، وأحياناً في بعض المعتقلات، يطلب من المعتقلين إدارة وجوههم على الحائط. والأمر التالي للتفقد، الإيعاز للمعتقلين أو لـ "سكان" المهجع -وهذا حسب الأحوال- بالسماح لهم بساعة أو أكثر من "التنفس"، وهذا معروف تماماً بين "سكان" المهاجع، وعادة "التنفس" هذا يعني حرية الحركة، سواء في الممرات أو النزول إلى الباحة، وذلك لممارسة الرياضة من مشي ولعب بالكرة أو الركض. بعد مضي الوقت المحدد للباحة (ساعة تقريبا) يصطف المعتقلون للخروج إلى مهاجعهم بطلب من السجان، خوفاً من أن يضلّ أي منهم الطريق، ويتم تفريغ الممرات من المارة (النزلاء الآخرين)، فسكان المهاجع المقصودون يصنفون عادة بأنهم خطرون، ولا يجوز الاقتراب منهم والحديث معهم.

كل الكتب أياً كانت هي -حسب رأيهم- موجهة ضدهم، وبحال كان العنوان يشير بأي حال إلى كلمة حرية، ديمقراطية، فالويل ينتظر من كان يقرأ هذا الكتاب

داخل المهجع، تتمتع بقدر من الحرية يمكن تسميتها بالحرية المشروطة، بمعنى يمكنك التنقل في بعض الأحيان بين "فرشات" المهجع، ويمكن أن تزور أحد السكان الذين تعيش معهم طيلة الوقت، ويمكنك قراءة بعض الكتب التي يتم إدخالها بالتهريب، سواء برشاوى أو بطرق أخرى، ولكن بعض الكتب ينبغي توخي الحذر في مواعيد قراءتها، فعادة يمر السجانون سواء كان مرورهم دورية "تفقد" أو ضجر من غرفتهم، ويطلب "العقائديون" منهم رؤية الكتاب، وبالطبع كل الكتب أياً كانت هي -حسب رأيهم- موجهة ضدهم، وبحال كان العنوان يشير بأي حال إلى كلمة حرية، ديمقراطية، فالويل ينتظر من كان يقرأ هذا الكتاب. وكل ذلك بدافع الحرص على عيون المعتقلين من التعب، فأنتم هنا بضيافتنا، وعلينا تقديم وسائل "الراحة" لكم، حسب كلمات أحد السجانين.

التنقل بين المهاجع ممنوع بشكل عام، ويحتاج إلى "إذن"، ففي حال ضجر شخص ما من جواره، أو ضاقت به سبل العيش، أو كثرت مشكلاته مع الآخرين، أو تضايقوا هم منه، يلجأ إلى تغيير مهجعه، وبهذه الحالة يجب عليه تحقيق أمرين: الأول موافقة أفراد المهجع المقصود أو بعضهم، بمحاكاة لمصطلح "الكفيل"، والثاني وهو المهم، موافقة السجان أو الحاكم على النقل، وقد تستغرق عملية الانتقال أكثر من يوم، وتصل أحياناً إلى أسبوع، وعند الموافقة، يطلب السجان من صاحب الطلب أن "يضبَّ" أغراضه، وهي عبارة عن "دشك" من الإسفنج وبطانياته وأشيائه الخاصة إن وجدت، يدخل مهجعه الجديد كضيف، ويقدم له مضيفه الشاي أو أي مشروب متوفر، ويرحب به السكان، ويتمنون له إقامة سعيدة، ومن مزايا الانتقال إلى مهجع جديد، الإعفاء من السخرة في دورها الحالي، أي يبقى على الأقل أسبوعين لا يقوم بأعمال السخرة، كضيف.

عشرة مهاجع حسب النظام المعمول به تشكل جناحا، والزيارات بين الأجنحة شبه معدومة، ومحصورة بعدد قليل جداً، وتبعاً لكل حالة "زيارة" على حدة، وتتبع لرئيس الدورية المناوبة إن كان يشرف على أكثر من جناح، والأجنحة تعرف بهوية ساكنيها ورموزها، فهناك أجنحة للحمر، وأجنحة للمتدينين، وأخرى لـ "اليمين المشبوه"، وأخرى "مشكّل". ففي حال كان "الساكن" طبيباً، يمكنه زيارة الأجنحة بسبب ضرورتها، وعادة ما يحملّه البعض رسائل لبعض الساكنين في الجناح المقصود، ويمكن لرئيس الجناح أحياناً أن يطلب زيارة، وبحال تفهم السجان أو رشوته، ينتظر الفرصة ليأخذ الزائر خلسة، فعادة القانون الناظم بين السجانين هو كتابة "الدراسات" بمن يتعرض لأمن الوطن، ويسبب خللاً في أنظمته!

ثمة مزايا تنفرد بها مهاجع سجن تدمر الصحراوي، ففضلًا عن مساحته الأكبر وعدد نزلائه الذين قد يصلون إلى المئات في بعض الأحيان، يتميز بوجود فتحة في أعلى السقف بقضبان حديدية تعرَف بالشرّاقة، يمكن من خلالها للحارس الموجود على السطح مراقبة السجناء في المهجع. والحركة في المهجع يجب أن تتوقف ويذهب الجميع إلى النوم بحدود الساعة السابعة مساء، وفي هذا الوقت يطلب الحارس في الأعلى من رئيس المهجع (وسيئ الحظ من يتم تعيينه رئيساً للمهجع) أن يُعَلِّمَ بعضاً من المساجين، بعد أن يشير الحارس إليهم سواء من خلال لباسهم أو أماكن جلوسهم أو أي علامات أخرى، والتعليم يعني ببساطة أن من تمَّ تعليمه سيعاقَب في صباح اليوم التالي، وعقوبة سجن تدمر لا مثيل لها، إذ قد تصل إلى حدّ الموت.

بالنسبة لبعض حالات المرض، ففي بعض الأماكن، تكفل الأطباء المعتقلون بمعالجة المرضى، بينما يتم شراء الدواء على نفقة المعتقلين، وحتى علاج الأسنان كان له نصيب من طبيب معتقل بأدوات بسيطة وبجهد رائع، أما الحالات الحرجة، التي قد تودي بصاحبها للموت أو يعدّها السجانون خطرة، فيتم نقلها إلى المشافي الحكومية بعد توصية من الطبيب المعالج، وتعرَف هذه التوصية بالإحالة، وفي هذه الحالة تقوم دورية من الفرع بأخذ المعتقل إلى أحد المشافي، حيث يعرّف كرقم، وفي حال اقتضى الأمر أن ينام في المشفى، وخاصة بحالة الجراحة أو حسب طبيعة المرض، يقيّد المعتقل من يديه ورجليه إلى السرير، وعادة ما تكون هناك غرفة في المشفى مخصصة للسجناء، وفي بعض الحالات، وحسب عقائدية الطبيب المعالج، يتعرض المعتقل للتعذيب، ومؤخراً أصبح التعذيب إلى حد الموت جزءاً من العلاج.

حياة السوريين اليومية لا تختلف عن حياة المعتقلين في المهجع، بمعنى أن جميع تحركات السوري يجب أن تكون مرصودة (حرصاً على سلامته)

الحديث عن الحياة في المهاجع مؤلم، ويبدو أن هذا الألم مرافق للسوريين من زمن بعيد، لكنه أخذ شكلاً فظيعاً وعاماً مع تسلط الأسديين على الحكم، فحياة السوريين اليومية لا تختلف عن حياة المعتقلين في المهجع، بمعنى أن جميع تحركات السوري يجب أن تكون مرصودة (حرصاً على سلامته). ومع الثورة السورية، وما جلبت معها نتيجة أمور عديدة (التدخلات الخارجية ومصالحها وارتهان الداخل للخارج وسعي أمراء الحرب والسياسة لتحقيق مصالح شخصية وغيرها من الأمور)، لم يُحرَم السوريون من حياة المهاجع، لكن في فضاءات أكبر، وكله بداعي الحرص على سلامة السوري وأمنه، ويبقى المهجع الأسدي أكثرها قسوة وظلماً.

إن نضال السوريين من أجل حريتهم وكرامتهم يتجلى في أحد معانيه في الخلاص من نمط حياة المهاجع والعيش بحرية بما يضمنه من حق التنقل أيضاً واختيار نمط الحياة، وربما كانت أمنية أحد المعتقلين في ثمانينيات القرن الماضي مُلخِصاً توقه للحرية والخلاص من حياة المهاجع بقوله: أن يتمكن من إعداد كأس من الشاي، وشربها في المكان والزمان الذي يشتهيه، تعبر عن أمل السوريين في الخلاص والتحرر، الأمل لا يزال سارياً وإن بأشكال أخرى.