حول عمالة الأطفال في مدينة القامشلي

2022.01.08 | 06:31 دمشق

thumb.jpg
+A
حجم الخط
-A

تُعتبر عمالة الأطفال من أكثر المشكلات التي تواجه نهوض المجتمعات، والتطور التربوي والتعليمي المنشود. حيث تبرز اتجاهات هذه الظاهرة الخطيرة في إغراق المجتمع بمجموعات متباينة العدد من الأطفال - الكبار في مختلف الأعمار، وبمستويات تعليمية متدنية؛ نتيجة عدم تتمة التحصيل العلمي واللجوء إلى الأعمال البدنية المجهدة المختلفة، سعياً للكسب المادي لأسباب مختلفة. وبذلك يكون المجتمع المحلي غارقاً بسلسلة من المشكلات لا تتوقف عند ظاهرة العمالة فحسب، فهي أولاً تعني زيادة في التسرب المدرسي، وثانياً خلق جيش من الأميين والعاطلين عن العمل في المستقبل القريب جداً، إذا ما قِسنا ذلك وفقاً لنوعية الأعمال ومجالات تطورها ودورها في المجتمع، وخاصة إذا كانت الفتيات يعانين من تمييز الأهل بعدم إرسالهم إلى المدارس، والاستفادة منهم في أعمال يدوية مختلفة في فترة الحروب والكوارث وما يستتبعه من ضعف في الاقتصاديات المحلية - المنزلية، وإن كانت تختلف عن الإعمال التي يقوم بها الذكور، لكن بالمحصلة فإن ذلك يعني تجريد المرأة من حقها في التعليم، بشكل أعمق في المناطق التي تشهد أكثر من عملية تعليمية ونظام تربوي قائم على نقاط التوزيع العسكري والأمني، وما يعني ذلك من إحجام غير المنسجمين مع توجه أو تيار معين عن إرسال أبنائهم إلى مناهج فاقدة للأهلية التعليمية.

كما يتسبب التسرب بضعف المشاركة الجندرية في المناصب الرفيعة وصناعة القرار في الدولة والمجتمع. ووفقاً لإحصائيات غير رسمية، فإن التسرب المدرسي قبل الــ/2011/ كنتيجة أساسية لعمالة الأطفال بلغت قرابة الـــ5% من مجموع طلبة المرحلتين الابتدائية والإعدادية في مدينة القامشلي في شمال سوريا، وزادت النسبة خلال الأعوام الست الأخيرة؛ نتيجة زيادة العمليات العسكرية، والهجرة، وانخفاض القيمة الشرائية لليرة السورية وانشغال الأهالي بتأمين متطلباتهم المعيشية وإشراك أبنائهم في توفير المصروف المطلوب، لتصل وفق إحصائيات خاصة إلى أكثر من 47%، ما يعني أن المجتمع الأهلي في مدينة القامشلي يتجه صوب كارثة بشرية مستقبلية.

ويُلاحظ المتجول في المنطقة الصناعية في القامشلي، والأراضي الزراعية في أوقات زرع البذار، الفلاحة، الحصاد، عينات مختلفة من أعمارٍ متباينة، لكنها بالمجمل تقل عن السن القانونية للعمل، وكثافة عمل الأطفال وطلبة المدارس في أعمالٍ خطيرة مثل تصليح أو دهان أو صيانة المركبات والسيارات، وما يتوجب عليهم فعله من حمل أحجام ضخمة وتعرضهم لمخاطر على حياتهم أو أجسامهم، أو العمل في القطاف والحصاد لساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة، أو الطقس البارد، ولا تقوى أجسادهم الطرية على تحمل تبعاتها ومضاعفاتها، كحال من التقى بهم كاتّب هذه المقالة، حيث قدم البعض منهم أجوبة صادمة حول عدّم معرفتهم بوظيفة المدرسة، أو أن يتخيل كيف هو الحال داخل الصف المدرسي، سواء من النازحين أو أبناء البلد، الذين لا يعرفون من التدريس والمدرسة سوى أن يتخيلوا شكل الصف الذي يشبه الغرفة، والمدرسة التي تشبه المنزل، والأستاذ كمثل ربّ العمل أو الأب؛ لأنهم لم يحصلوا على التعليم أبداً، أو غادروا مقاعد الدراسة باكراً، ولجؤوا للعمل.

وإذا كانت الحالة السليمة أن الناس لا يمكنهم أن يتخيلوا حياتهم دون تعليم، لكن الهارب من بطش داعش والعمليات العسكرية المختلفة، ومن مختلف الجهات، لم يتمكن قسم منهم من تخيل الحياة مع التعليم، ولم يدخلوا المدرسة أبداً، ويقولون إنهم يسمعون كلمات غريبة تتردد أمامهم مثل مدرسة، مدرسين، طلاب، كتّاب، وظيفة... إلخ، فهم لا يعرفون سوى أن مجموعة من الأطفال يجلسون في غرفة ويأتي رجل ويتحدث إليهم، وهي جمل التقطتها آذانهم من أقرانهم في الحيّ.

العدة الصناعية والزراعية عوضاً عن القلم والدفتر

تفوق نسبة أبناء الأسر والعوائل النازحة إلى القامشلي أبناء المجتمع المحلي، في نسبة التسرب المدرسي، خاصة وأن البعض منهم انتقل إلى القامشلي منذ ثلاث أعوام فقط، بعد أن اضطروا للفرار من بطش الحرب وتداعياتها، وكان ينبغي أن يكون هؤلاء الأطفال قد أتم سنوات الدراسة، لكنهم يمضون وقتهم في محل تغيير زيوت السيارات، بيع مختلف المنتوجات أو مواد الاستهلاك اليومي مقابل أجر/وارد متواضع، وساعات طويلة من العمل، ما يمنعهم من متابعة الدراسة. وتضم مدينة القامشلي أكبر عدداً من النازحين السوريين، المنتشرين في مختلف الأحياء والقرى، وبالرغم من زيادة نسبة أطفال المجتمع المحلي المنخرطين في عمالة الأطفال، لكن أبناء الأسر النازحة تتفوق في عمالة الأطفال على أبناء البلد، ويبلغ عدد الأطفال النازحين العاملين في مختلف المهن قرابة 2 من كل 3، وتعتبر المنطقة الصناعية من أخطر الأماكن على الأطفال وأكثرها احتواء واستقطاباً، إضافة إلى عمل الأطفال في جني الخضار ضمن البيوت البلاستيكية بالرغم من رخص الأيدي العاملة، في ظل عزوف الشباب عن العمل هناك؛ نتيجة الهجرة، أو العمل في أماكن أخرى أكثر راحة وأماناً، وعدم وجود جهة تتبنى هؤلاء الأطفال والصرف المالي عليهم ليبقوا ضمن المدارس.

ووفق مصدر من ممثلية اليونيسيف في القامشلي، فإنه من الصعب جداً التصدي لعمالة الأطفال، إذ غالبا ما يكون هذا العمل هو مصدر الرزق الوحيد للأسرة السورية - النازحة أو أبناء المنطقة، حيث يشكل أجر الطفل العامل مع باقي أنواع المساعدات فرقاً حاسما في بقاء الأسرة، لكن نتمنى أن نتمكن من تمكين الأسرة السورية من إرسال أبنائهم للمدارس وليس للعمل.

بابٌ خطير يُفتح وأهم بابٍ يُغلق

إن تأثر الأزمة الطويلة التي تعيشها سوريا، لا يقتصر على تعطيل تعليم الأطفال وحياتهم لفترة مؤقتة، بل إنه يغلق باب المدارس مدى الحياة. ويبدو أن قصص بعض من التقى بهم كاتب المقالة، هي قصة الآلاف من الأطفال السوريين في القامشلي، وهم أطفال تحطمت آمالهم وطموحاتهم في الحصول على التعليم، وتبدو الأمور بالنسبة لكثيرين منهم قد فاتهم أوان العودة مجدداً للدراسة وكل عامٍ يمضي تصبح الأمور أكثر صعوبة وسوءً.

ووفقاً لكثير من المختصين والمدرسين، فإن المجال الاجتماعي لهؤلاء الأطفال ينتهي منذ بداية عملهم، فتغلق عليهم أبواب الانخراط الاجتماعي ضمن الطبقات الميسورة أو المتوسطة مستقبلاً، خاصة وأنهم يحتاجون إلى فترات زمنية طويلة لتعلم الصنعة، وهم ليسوا سوى عمال عاديين فحسب، مقابل تطور وسط ومجال عمالة الأطفال بشكل مخيف، لتصنع تاريخاً مدوياً في وجه الحكومات وسياساتها التعليمية والمعيشية، وربما ما كان لأحد أن يضحي بمستقبل أبنائه لولا الفقر المدقع. عدا أن الطفل العامل يفقد محطتي طفولته ومراهقته ويتعرض جسمه لمتغيرات فيزيولوجية مخيفة، ولا يتسنى له أن تنضج شخصيته في مكانها وطبيعتها المعتادة.

معاناة الأطفال في المنطقة الصناعية/أسواق القامشلي- لا تقتصر على فقدان لذة الاحتفال بسجلاتهم المدرسية وشهادات التخرج، وفقدان الذكريات والوثائق التي تثبت أهميتهم التعليمية والثقافية في المجتمع، بل إنهم سيبقون رهينة سياسات الآخرين يحركونهم كيفما يشاؤون، وتالياً فإن المجتمعات المحلية التي تعاني من تضخم عمالة الأطفال هي المجتمعات التي تضيف إلى سجلها إحدى الأسباب المتراكمة لسقوطها.