حلب.. من ذاكرة الرحيل

2019.12.20 | 18:36 دمشق

images_17.jpg
+A
حجم الخط
-A

نكأُ كوّة صغيرة في جدار ذاكرتنا الهش، يشبه جداً فتح أبواب الجحيم التي تحرق أرواحنا أبداً.

كانت السماء متلبدة بالغيوم بشكل كامل، والطقس بارد بطريقة لا معقولة، إنه شهر تشرين الثاني من عام 2016، على بقعة جغرافية من تلك البلاد المسماة سوريا، ولكنها ليست سوريا العادية، حيث الحياة عادية جداً، أو هكذا يحب أن يراها الحالمون فيها بحياة أقل صخباً، وبالتحديد في مدينة حلب، ولكن ليس حلب الغربية، نعم، هناك حلبان، متوازيتان بحياتين مختلفتين تماماً وطبيعة مختلفة، حلب الغربية، والتي تقبع تحت حكم قوات الأسد وميليشياته، حيث الناس يعيشون حياة طبيعية هادئة ما داموا صامتين عن أي شيء، لا يشغلهم إلا العمل والنوم والتزاوج، طالما هم كذلك توهب لهم الحياة هبةً من قائد الوطن! أما حلب الأخرى، فهي التي لم تشأ أن تكون كذلك، بل طالب أهلها بالحرية، ولسنوات عاشوها حقيقة رغم الصراعات المتولدة بين كل كياناتها العسكرية والمدنية، ورغم كلّ القصف والدمار الذي صار سمة أحيائها، والموت الذي رافق أهلها، بسبب قصف أولئك الذين أزعجهم صوت الحرية القادم من هناك.

نعود إلى تشرين الثاني، ويومه الغائم، وزرقة سمائه الغائبة تماماً، ليس بفعل الغيوم وحدها، بل أيضاً بفعل الطائرات وغبار القصف والركام، كنت قد تركت ولينة، البيت الذي صنعناه على أعيننا في حي المشهد، لأنه كان في الطابق الثاني، وقرب المشفى الوحيد المتبقي في المدينة، ما سيجعله عرضة للقصف من الطائرات التي لم يحب طياروها أن يبقى هناك أي أمل للناس في الحياة أو النجاة، ورحلنا مكرهين إلى بيت في حي الزبدية، شغل البيت الطابق الأرضي في بناية موجودة بشارع فرعي، حتى نصل إليه كان لا بدّ أن نمّر بزاوية يكشفها قناص، ولكنّ ذلك كان أهون من قصف البيت بأكمله فنلتحم مع الركام في مشهد سوريالي لن يراه سوانا حين نكون، وكان الشارع الفرعي مفتوح النهاية إلى منطقة خالية من الأبنية، هي المسافة الفاصلة بين حيي بستان القصر والزبدية، يمرّ في منتصفها نهر قويق، وعلى طرفيها تنتشر البساتين والأشجار، في هذه الفترة كانت الجبهات الشرقية من المدينة قد بدأت تتهاوى بشكل سريع، وسط تقدم لقوات الأسد والميليشيات الطائفية الإيرانية والعراقية واللبنانية التي تدعهما، وتغطية نارية من الطائرات الروسية جواً، والتي استخدمت لأول مرة قنابل سموها بالارتجاجية، إذ أنها تحوّل البناء المكون من ستة أو سبعة طوابق ركاماً، أو غباراً، وتخلّف وراءها هوّة في الأرض بعمق سبعة أمتار تقريباً. استيقظت صباح ذلك اليوم على صوت برميل متفجر ألقته مروحية عسكرية نزل في مكان قريب جداً، لم أستطع تمييزه جيداً، لذلك ارتديت ملابسي، وركضت إلى الشارع لأرى عمود الدخان يصعد من قرب مدرسة فدوى طوقان، والتي كانت مقراً عسكرياً للكتيبة التي كنت أزورها دائماً، وفيها كلّ أصدقائي، كان بيت الصديق وائل، والذي أصبح القائد العسكري للكتيبة نتيجة غياب الآخرين، حمدي وأبو عروة، خارج حلب في فترة ما بين الحصارين، وائل شاب في مقتبل العمر، لم يكن يعرف عن الحياة سوى العمل، حتى اقتيد إلى الخدمة العسكرية الإلزامية في مطلع الثورة، لينشقّ عن جيش الأسد بعد أول اقتحام لمدينة القصير في ريف حمص. كما كان أحمد قد انتقل قبل أيام إلى بيت مقابل بيت وائل، حيث كان يسكن في طابق أرضي في حي صلاح الدين، حيث صنع مكتبته هناك فهو الباحث والكاتب الذي فضّل المجيء إلى حلب والإقامة في قلب الموت على البقاء في عمّان، يتابع من خلف الشاشات أحداث ثورة انتمى إليها بكل كيانه.

ركضت كالمجنون نحو مكان القصف، لأرى البرميل المتفجر قد سقط في الممر الفاصل بين بناية وائل والبناية المقابلة، وما يميز انفجار البرميل، أنه يكون عمودياً، على عكس القنابل الفراغية التي تنفجر أفقياً مستهدفة أعمدة البناء، فتنزلق الأسقف فوق بعضها، حاصرة بينها جثث الشهداء وأجساد المصابين من الساكنين، فانقسمت بفعل البرميل بناية وائل إلى نصفين، وكأن أحداً ما قد قطعها بمنشار حادّ وبحرفية عالية، ثم ضرب أحد القسمين بمطرقة كبيرة، ورأيت شباب الكتيبة منتشرين فوق الركام يعلوهم الغبار كأنهم خارجين للتو من تحت ركامها، سألت بلهفة الفاقد عزيز عن أحمد ووائل، فأجابني أحدهم أنهما بخير في خط الجبهة الأول، في حي الإذاعة، حيث حاولت قوات الأسد التقدم قبل شروق الشمس، ما اضطر وائل، الذي كان مسؤولاً عن القطاع، إلى الذهاب هناك، ولحق به أحمد، بعد نزول البرميل الذي أيقظه، بقليل، فتوجهت إلى هناك، لأرى أحمد ووائل قادمين من نقاط الرباط، على كتف كلّ منهما بندقية، والتقينا عند نقطة الاستقبال في الجبهة، التي كانت بداية مفرق فرعي، للشارع الرئيسي الذي يوصل حي الإذاعة وسيف الدولة بحي بستان القصر، على زاوية المفرق أُعد مكان للجلوس مع مدفئة حطب، وساتر يغطي الرؤية عن القناص المتمركز في مبنى القصر البلدي، وفي الجهة المقابلة غرفة معدة لتحضير الشاي والقهوة وفيها مكان لنوم شخص واحد.

قال وائل: الوضع متجه لأن يسوء أكثر، وقوات الأسد وصلت حتى حي الكلاسة، لا يمكن لك أن تبقى في منزلك ذاته. بطبيعة الحال كان لا بدّ أن نبقى متأهبين كل الوقت، فلا ندري ما الخطوة التالية، كانت المدينة التي كانت واسعة بنا ولنا، قد ضاقت وانحسرت لتصبح ضمن أربعة أحياء فقط، وخصوصاً مع التهاوي السريع لجبهات المدينة الشرقية، وانحشار أكثر من مئتين وخمسين ألف نسمة ضمن هذه الأحياء، عدد كبير منهم من المقاتلين، الذين فضّلوا أن يحملوا بنادقهم ويبقوا في الشوارع منتشرين، يتلقطون الأخبار من هنا وهناك، دون أن يكون لهم أي مقدرة على المقاومة، فقد كانوا مهزومين داخلياً قبل كلّ شيء، كان الخيال الوحيد الذي يدور في رأسنا جميعاً حينها، هو أن النهاية ستكون كأي فيلم تراجيدي، يدافع من تبقى عما تبقى بعد أن ضاقت الأرض أكثر لتصبح بضع أبنية نتمركز فيها حتى نفنى جميعاً، لم يكن التسليم أحد الخيارات المطروحة ولا المتاحة أصلاً. ذهبت إلى البيت، فسألتني لينة: كيف هو الوضع، وما آخر التحديثات؟ كانت لينة قد بدأت تصور فيديوهات باللغة الإنجليزية وتنشرها على حساباتها في مواقع التواصل الاجتماعي، فلم يكن سؤالها سؤال الخائف المترقب، بل سؤال من يريد أن يعرف ماذا يمكن أن نفعل. قلت: لا وقت الآن، علينا أن نحزم ما نستطيع من أخف ما نملك، ونغادر البيت حالاً، وسأشرح لك في الطريق، وخلال أقل من نصف ساعة كنا خارجين

انسحب المقاتلون الثوار من حي بستان القصر، إذ كان ظهرهم مكشوفاً أمام قوات الأسد، وخاصرتهم من طرف دوار جسر الحج أيضاً مكشوفة

من البيت باتجاه بيت أصدقاء لنا، ستقضي معهم لينة كلّ الوقت اللاحق بعيدة عني، وحين أخبرت لينة أن المنطقة القادمة التي يمكن أن تسقط بيد المهاجمين المعتدين هي حي بستان القصر، ما قد يجعل بيتنا في مرمى النيران تماماً، وأن القوات لا تنفكّ تحاول التقدم في حي الإذاعة، وقبل أن نصل بيت الأصدقاء، أمسكت لينة بيدي بقوة، وقالت: "لا تخف، أنا لست خائفة، كن قوياً أمام العاصفة، ليس من خياراتنا أن ننكسر" وافترقنا هناك، هي إلى بيت الأصدقاء وأنا إلى وائل وأحمد.

انسحب المقاتلون الثوار من حي بستان القصر، إذ كان ظهرهم مكشوفاً أمام قوات الأسد، وخاصرتهم من طرف دوار جسر الحج أيضاً مكشوفة، الأمر الذي أدى لأن يصبح البيت الذي كنت أسكنه خطاً جديداً للجبهة، ليس معداً أصلا لأن يكون كذلك، وهو خط طويل يبدأ من أوّل نزلة الأنصاري قرب دوار جسر الحج، وينتهي في أول حي الإذاعة، فبدأنا نركض، بين هذا وذاك، نستجديهم أن يذهبوا معنا لتغطية خط الجبهة دون أمل بالرد من أحد، إلا مجموعات من الناشطين الذين لم يحمل معظمهم سلاحاً خلال الثورة، لبوا النداء، وبدأنا بتجهيز الأماكن في الأبنية كنقاط مراقبة ورصد، وتمركز في كلّ نقطة أربعة شباب، فيما تستمر قوات الأسد التقدم في حي الإذاعة المحاولة تلو الأخرى، وتمنى بخسائر في العتاد والأرواح.

إلى أن وصل خبر بأن المفاوضات قائمة لأجل إخلاء المدينة من أهلها، وهدأت الجبهات والقصف نسبياً، وبدا على الناس علامات الانفراج قليلاً، مع توجس كثير، وافق الروس إذن على إخلاء المدينة، وبدأ فريق المفاوضات في حي الراموسة الإعداد لإخراج الناس، وفي ليلة الخامس عشر من كانون الأول في الساعة الواحدة والنصف ليلاً، وبينما يتم إعداد القافلة الأولى التي ستغادر حلب صباحاً، بدأت جبهة النصرة معركة هزلية في ريف حلب الغربي، وتحديداً على محور مدرسة الحكمة، فيما قالت إنها لفك الحصار عن المدينة، ووفق غرفات التنصت أن الإيرانيين المتركزين في المدرسة

آلاف البشر المنتشرون على طرفي الطريق الواصل بين حي السكري وحي الراموسة، يفترشون الأرض، متوزعين على جماعات، يشكلون حلقات تتوسطها نار، إذ كان الثلج قد غطى وجه الأرض

أعطوا أمراً بالانسحاب من المدرسة لتتقدم النصرة منها، فعرفنا حينها أن الإيرانيين غير راضين عن إخلاء المدينة ويريدون اقتحامها وقتل كلّ من فيها، وبعد تدخلات محلية ودولية لدى جبهة النصرة، لم توقف العملية إلا كاد الاتفاق ينهار، وخرجت القافلة الأولى، وتوالت القوافل بعد ذلك، فيما نحن ما زلنا على خطوط الجبهة في حي الإذاعة حرصاً ألا تغدر بنا قوات الأسد، وخلال هذه الأيام، وقعت الكثير من الأحداث الثقيلة والكثيفة فعلاً على أن يحتملها هذا النص، سيكون لها مكان آخر للحديث عنها. وفي ليلة العشرين من كانون الأول عام 2016، أفرغنا كلّ النقاط، وانتقلنا بسياراتنا نحو معبر التهجير في حي الراموسة، كان المشهد لا معقولاً بطريقة جنونية، آلاف البشر المنتشرون على طرفي الطريق الواصل بين حي السكري وحي الراموسة، يفترشون الأرض، متوزعين على جماعات، يشكلون حلقات تتوسطها نار، إذ كان الثلج قد غطى وجه الأرض.

وعند غروب يوم الواحد والعشرين من شهر كانون الأول، كنا قد انتظمنا في رتل كبير، بعد أن غادر الجزء الأكبر من الناس المدينة، ولم يبق إلا القليل من أولئك الذين لم يشاؤوا أن يغادروا المدينة حتى يطمئنوا على الجميع، وبدأ رتلنا بمغادرة المدينة، قاطعين برزخاً يفصل ما بين حياتين يشبهاننا جداً، عبر حي الحمدانية الواقع تحت سيطرة قوات الأسد، عابرين حاجزين للقوات الروسية، نودّع المدينة التي أخذت من أرواحنا قطعاً في كلّ يوم قضيناه فيها، بدمعات قاسية حفرت أخاديد في وجوهنا، وقلوب ترجف فراقاً وفاجعةً، نودعها عبر مرآة السيارة وهي خلفنا، يكتسيها الظلام المطلق على رحلينا منها مجبرين.