حياة كالموت!

2019.05.31 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

مؤلمة الصور التي ترد من إدلب، عوائل كاملة تقتل تحت أنقاض منازلها دون فرصة بوداع أخير، وجيل كامل من الأطفال لم يٌتح له خيار أن يكبر دون خوف من صاروخ طيارة أو قذيفة مدفعية، الموت كان أسرع من الحياة في خطف هذه الأجساد الصغيرة. دائماً ما نقف مشدوهين أمام الحقيقة الصعبة الموت حقاً أسرع!

هناك شعب واسع من المتروكين في العراء هرباً من موت يلاحقه أين ذهب، كل هذا يصيب القلب بنوبة حزن عارمة، وثمّة حقاً ما يدفعنا نحو الجنون المطلق، فنحن ومنذ ما يقارب التسع سنوات على حافته تماماً.

هل تعرفون ماذا اكتشفت؟!

نحن ماهرون حقاً في ارتداء الحزن ثوباً لا نخلعه، وبتّ أشعر أننا نبحث عمّا يحزننا دوماً كي نحزن، نبكي، نندب وجع الأيام، وحلماً لم يتحقق، وإن لم نجد فننقب في جدار الذاكرة فوّهة صغيرة تتسرب منها الأيام الفائتة، إذ طالما كنا ننظر إلى الخلف، عالقين فيما كان، غير آبهين بما سيأتي، ولماذا؟ لأننا نريد أن ننشغل بالحزن عليه عندما يصنعه لنا الآخرون بالدم/ دمنا، ونحزن أيضاً عندما يذهب.

ماذا نصنع أمام قبح هذا الواقع الفجّ جداً؟ لا أستطيع الحراك حين أرى الطفل المرمي بين ركام الحجارة وردم القصف يملأ عينيه اللتين كانتا مضيئتين قبل قليل، كان يتنفس قبل أن تملأ رئتاه غبار السقف الذي كان يظلله، وأتخيل أن هذا الطفل ولدي، أو ربما كنت أنا، لكنها لعنة الجغرافيا والحظ معاً، قد اختارت ذاك الطفل ولم تختر ولدي/أنا، يتملكني الحزن وتنهار

نحن في عالم عاهر، لا يأبه بموتنا، يزعجه صوت أنفاسنا فيكتمها، أو يكون شاهد صمت على كتمها، نحن لا بد نعيش في الزمان الخطأ!

الكلمات من جوفي في خواء مطلق العدم، ويخفّ رأسي كمن فرُغ تماماً من أي شيء وصار قطعة قماش مرمية على الأرض تحت أقدام المارة، أو قصاصة ورق حملتها الرياح رماها الدهر في مكان بعيد، وألعن كلّ دقيقة تمرّ عليّ دون أن أصنع شيئاً، وأشعر بالعجز يقضم حلقي، ورئتاي يملؤهما غبار الردم الذي كان في رئتيه، وأحاول السعال فأرى وجهه أمامي فأبتلع نفسي وأتمنى أن أتلاشى حقاً!

ثمّ إننا، ما نلبث نكرر أنفسنا، منذ حمص القديمة، إلى داريا، وحلب، الغوطة الشرقية، درعا، إلى جنوب دمشق، تبدأ الحملة العسكرية، يموت الناس، يقاتل الرجال لفترة، يُنهكون، يموت الرجال، نخسر الأرض، نقوم بالحملات الإعلامية، نتظاهر، نصرخ، نبكي، نلعن حظنا، ثم يكون التهجير.. لقد سئمنا حقاً. نحن في عالم عاهر، لا يأبه بموتنا، يزعجه صوت أنفاسنا فيكتمها، أو يكون شاهد صمت على كتمها، نحن لا بد نعيش في الزمان الخطأ!

  • طيب، ما الحل؟!

أن نحزن

  • لماذا؟

لا شيء آخر لنفعله

سأقول لك شيئاً، أن تحزن في وقت الحزن أمر طبيعي، أن تغضب أن يملأك الحقد، أن تنجر إلى دائرة اللا فعل في لحظات، أن تذهب إلى عملك في كسل، أن تأكل وجبتك بلا شهية، أن تنام دون أن تغمض عينيك، وأن تصحو دون أن تصحو، كله طبيعي، ولكن ما هو ليس طبيعي أن تكتفي بذلك، وأن تنشر حزنك وحده للآخرين، والآخرون هنا كلّ ما هم سواك، لأن ذلك ما يريده لك هذا العالم، أن تتدجّن، أن تعود إلى كرّاس القهر، وأن تُقبل اليد التي تقتلك وأن تشرب من كأس دمك، وأن تُكرّم سيفاً أثكلك، وأن تحزن فقط.

فوّهة الذاكرة تلك التي ننكأها كلّ ما أردنا حزناً، كان يمكن أن تكون فوهة بندقية تفرغ من خلالها ما في قلبك من غضب على القتلة مع كلّ رصاصة تكّبر باسم الله والشهداء والأرض وصمودك، أو فوّهة مدفع تدفع به عن الآخرين في صف الاشتباك بعض موت يريده لكم الأعداء بقدر ما تريدون لهم، أو ربما فوّهة "تنور" توزع به خبزاً مصنوعاً من حب على جموع المشردين تحت أغصان زيتون إدلب الحنونة التي مدت ظلالها مطلقة إلى الأبد على أهلها، أو فوّهة فمك تصرخ.. تصرخ دون ملل باسم الثورة والحرية والحرية..

 الناس اليوم، من في إدلب، من تبقى منهم حياً وحتى من رحل، وكل من هو مهتم لصوتك/ دمك/ أهلك/ ثورتك/ أرضك، سيتخلون عنك حين يرون أنك انهزمت، وأنت لا تنهزم حين تموت، أنت تنهزم حين تقرر ذلك. هم ينتظرون منك أن تتحرك، بأي طريقة كانت، أن تتظاهر في شوارع لندن أو برلين أو باريس، أن توزّع منشورات في الشارع، أن تكتب مقالاً، أو أغنية أو مسرحية أو رواية، أن تصرخ ولو كنت وحدك حتى

يجب أن نحكي عن الحياة التي نريد أن نصنع لمن تبقى، دون أن ننسى من رحل ومن يرحل ومن سيرحل

تجرّ الشعوب لتتضامن معك، أن تدعو لإضراب واسع عن العمل، أن ترفع قضية، أن تُمزّق صورة قاتل أخيك، أن تهجم على خطوط العدو، أن تهاجمهم حتى لو مت، وأن تبكي.. لكن وأنت تفعل أي شيء آخر معه، مهما كان صغيراً، والأهم في كلّ هذا أن تصنع الأمل!

الأمل؟

نعم، الأمل، يحتاج الناس الأمل لتكون الحياة حياة رغم كل الموت، وليكون الموت أخف وطأة، إذ ليس منه بد، لقد يئس الناس من كثرة ما ذكرنا الموت، يجب أن نحكي عن الحياة التي نريد أن نصنع لمن تبقى، دون أن ننسى من رحل ومن يرحل ومن سيرحل، قد أكون أنا أو أنت أو أي شخص آخر، وقد نموت بصاروخ أو شظية أو رصاصة أو حادث سيارة أو موتاً طبيعياً، المهم ألا تموت القضية، وقضيتنا هنا الأمل الذي قامت الثورة لتصنعه فهاجمتها كل وحوش الأرض حتى لا تكون ولا يكون، الأمل الذي فقدنا لكثرة ما متنا، الأمل بحياة لا استبداد فيها ولا ظلم، في حياة للجميع الحق في أن يحيوا كما يشاؤون، وأن يقول كل منهم ما يريد دون خوف.

قاتل؛ استمر في القتال لا تتوقف، لكن وأنت تأمل في الحياة لا في الموت.