عبدالوهاب ملّا.. حين عاد إلى غيابه الأخير

2019.11.08 | 09:24 دمشق

maxresdefault_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

إلى الحدود السورية التركية كان طريقنا عبر ممرات خلفية وطرق مهجورة، من مدينة حلب التي كانت مكتظة في ذلك الوقت بالحواجز العسكرية لنظام الأسد، في شهر نيسان 2012، اضطررنا للذهاب بداية بسيارة خاصة داخل أحياء المدينة، عبر الحارات الضيقة كي نتفادى الوقوف على حاجز عسكري، قد يُنزل أحدنا أو كلنا، لنختفي تحت الأرض وخلف الجدران السميكة، في أمكنة لا تصلها الشمس، ولحسن الحظ أن سائق السيارة حين أخطأ طريقاً واحداً، واضطر للمرور من حاجز كان يُعرف وقتها بقذارة العساكر فيه، في منطقة حلب الجديدة، كان الحاجز مشغولاً بسيارة أخرى فتجاوزناه بسلام، بأوجه صفراء خالية من الدم، وقلوب تفرّ من بين الضلوع فزعاً، وعظام تتخلخل من أماكنها، لنصل بعدها إلى نقطة في حي جمعية الزهراء، حين سنقطع المكان مشياً لنعبر المدينة إلى الريف، حيث سيارة أخرى فضية اللون، من نوع ميستوبيشي، يقودها "أبو محمد" الرجل الخمسيني ذو الصوت الأجش والذي يبدو وكأنه يخرج من باطن قدمه لا من حنجرته، لينقلنا بعدها باتجاه مارع، وأيضاً عبر طرق فرعية خالية من الحواجز العسكرية، يحفظها جيداً، إذ كانت المعارك ما تزال قائمة في الريف، وما زال جيش الأسد في بعض نقاطه.

طُرق الباب في العاشرة صباحاً، لنرى، متفاجئين، خلفه عبدالوهاب واقفاً، يلبس لباساً حلبياً تقليدياً، الشروال والقمباز، ليقتحم علينا حياتنا منذ ذلك اليوم

 حين وصلنا بدايةً إلى مارع، نزلنا في مدرسة تحوّلت إلى مقر عسكري، لكتيبة من أبناء المنطقة على رأسها ملازم أول منشق من الرستن كان يلقب بأبي الجولان، لنأخذ بعدها مع مجموعة من الكتيبة طريقنا نحو إعزاز، حيث مررنا بطريق ريفيّ مزدوج الاتجاه، تحيطه الحقول يمنة ويسرة، وفي منتصف الطريق، فيما يبعد عن يسارنا مسافة لا تتجاوز 2 كم، كان ما يزال مطار "منّغ" العسكري يتربع على كتف قرية منّغ، وكلاهما تحت سيطرة قوات الأسد، ومع وصولنا إعزاز، شهدنا ولأول مرة، شوارع يملؤها الركام، أبنية مدمرة، جدراناً مثقوبة بفعل صاروخ أو قذيفة، أو يتكون كوّة انتفال للمقاتلين وصولاً إلى خط الجبهة، حيث معظم الشوارع مرصودة بقناص، وحين عبرنا الكوّة تلو الكوّة، وصلنا أخيراً إلى خط الجبهة، لنشهد أيضاً ما لم نره من قبل، مجموعات من الشباب تحمل أسلحتها الفردية، منتشرة في شارع فرعي طولاني، يؤدي إلى شارع رئيسي عرضاني، كان يفصل ما بين جزئي المدينة، ويوجد في طرفه الآخر جامع "الحج فاضل" قرب مبنى الأمن العسكري، الذي تمركز على مئذنته قناص، استطاع أن يشلّ حركة معظم شوارع المدينة.

رتّب لنا أحد شباب الكتيبة زيارة إلى معسكر "لواء عاصفة الشمال" التدريبي، فكنا كمجموعة من خمسة مجانين "ورد وأبو عروة، وأبو القاسم، وحمزة وأنا"، أول حاملي كاميرات، كان أفضلها كاميرا سوني اليدوية، يدخلون إلى أول معسكر تدريبي للجيش الحر في منطقة قريبة من معبر باب السلامة، وقبل أن يتم تحرير المعبر بعدة أشهر.

وبينما كان الذهول يأخذنا وراءه في كرم الزيتون ذاك، الذي شكلت الفراغات بين شجراته طرقات المعسكر الترابية والمرصوفة أحياناً بالبحص والحجارة، ونحن نرى للمرة الأولى، خيماً عسكرية، وأبنية إسمتنية مرصوفة كعلب الكبريب بجانب بعضها، وبندقية "فال" البلجيكية، القديمة قدم الحرب العالمية الثانية، بيد أحد المقاتلين، وبنادق الكلاشينكوف غير متطابقة الأرقام، والمعدّلة بما يناسب أن تخرج من فوهتها الرصاصة بطريقة ما، ومقاتلين بأحذية رياضية أو "كلاشات"، مرتدين بدلات عسكرية لكل قطعة منها لون مختلف، إلا من بعض المتباهين بهندام عسكري كامل وبواريد نظيفة يبدو أنها متطابقة الأرقام، دون أن ينسوا النظارات الشمسية ليبدو منظرهم وكأنهم هاربون للتو من فيلم حرب هوليودي.

صرخ حمزة بطريقة مفاجئة "لك مو هاد أبو صطيف تبع برنامج هاد كل شي صار" كنت لأول مرة أسمع بهذا الاسم، ولم أعرف أيضاً ما يقصد بـ"هاد كل شي صار" ظننت لوهلة أن شيئاً ما حدث، وكان كلّ ما حدث، ولكنّي مثّلت دور العارف، ولم أُبد أي تعابير تُظهر جهلي وقتها، وما لبثت أن رأيت "أبو صطيف" قادماً من الطرف التركي ماشياً، ويبدو وراءه في الأفق البعيد، تجمع كبير لخيم بيضاء وزرقاء، عرفت وقتها أنه مخيم أنشأته تركيا للنازحين من المنطقة، وصل أبو صطيف أخيراً، أخذه حمزة بالأحضان، وبدأ حديثه معنا جميعاً وكأنه يعرفنا منذ الأزل، يحدثنا عن قراره ترك السعودية والعمل فيها والعودة إلى سوريا من أجل الثورة التي تحتاجه، وهذا وصوله من تركيا عابراً بطريقة غير شرعية، تاركاً وراء حدودها الحياة خلفه، قاطعاً عهداً ألا يعود إليها إلا بعد سقوط النظام، وكان طيلة الحديث ضاحكاً مستهزئاً من كلّ شيء، كما سأعرفه بعدها دائماً.

لم أعرف كيف وثق بنا عبد الوهاب أو وثقنا به، ونحن الذين نلقاه للمرة الأولى، ليعود معنا إلى حلب، بذات الطريق الذي أتينا به وبذات الخطوات تماماً، دون أخطاء، فالخطأ هنا قد يُكلّف حياة. عدنا إلى بيتنا الشبابيّ الثوريّ، في حيّ المارتيني في حلب، ليتركنا عبدالوهاب متجهاً إلى حي الشعّار حيث مكان إقامة أهله.

وبعد يومين فقط، طُرق الباب في العاشرة صباحاً، لنرى، متفاجئين، خلفه عبدالوهاب واقفاً، يلبس لباساً حلبياً تقليدياً، الشروال والقمباز، ليقتحم علينا حياتنا منذ ذلك اليوم كجزء من "الشلّة" وكواحد أساسي من عائلتنا الثورية يربطنا به نسب ثوري أقرب من كل نسب الدم لدينا، ولكنّ الصدمة كانت حين رأيناه يخرج من خلف ظهره مسدساً صغيراً، عيار 7ملم ويضعه أمامه، بعد أن جلس، ولم يدر في بالي وقتها إلا سؤال واحد: من أين يأتي هذا الرجل بكل هذه الجرأة في مدينة يملؤها عناصر الأمن والشبيحة وتبدو من كثرة الحواجز والدوريات وكأن لا مكان فيها لموطئ قدم؟ حتماً هذا شخص استثنائي!

عبد الوهاب، بشخصيته الاستثنائية، كان سليط اللسان، فلم تكن تمرّ حلقة واحدة دون أن "يضرب بمساميره الحادة" الفصائل الموجودة في المدينة،

وتوالت الأيام، والمواقف الطريفة مرات والخطيرة مرات أكثر، مع عبد الوهاب، إلى أن دخل الجيش الحر إلى مدينة حلب، وانقسمت المدينة إلى شرقية وغربية، لا الأولى تضيء بفعل القصف والمعارك حيث فرغت من أهلها وصارت مدينة أشباح بالمطلق، ولا الثانية تضيء بطبيعة الحال لوجودها تحت سلطة من بدأ يحوّل الأولى إلى خراب، انتقلنا كمجموعة، منذ البداية، وإن كان على دفعات، إلى حلب الشرقية، وصار لنا فيها بيت يشبهنا ويحمل كل تفاصلينا، ومع مرور الوقت، وشيئاً فشيئاً، بدأت الحياة تعود إلى القسم الشرقي من المدينة، وبدأ النشاط الثوري يبدو فيها عالياً، وكان عبد الوهاب أحد أولئك الذين امتلكوا حضوراً كثيفاً في كل مكان، وصار أحد معالم ذاك الجزء من المدينة، تماماً مثل المظاهرات الدائمة، مثل القصف والركام، مثل المعارك المستمرة.. فضّل عبدالوهاب أن يقيم في حيّه القديم الذي نشأ فيه، ولكنه كان يومياً ومثل منبه الساعة، يقتحم البيت علينا، نحن الكسالى النيام، في السادسة صباحاً، وأذكر في أحد الأيام دخل يغني بصوته الساحر حقاً حد امتلاء الروح "يا نجمة الصبح فوق الشام عليتي.. الأجواد أخذتي والأنذال خليتي" ووقف فوق رأسي، وأنا أحرس جسدي من برد قارس، متكوراً داخل "كيس نوم" كحلي، وصرخ بي "دي قوم حاج نوم"، فأشرت له أن اصمت، فبدأ بطريقة استهزائية لطيفة، وبصوت حزين يقول "لك قوم، الوطن بحاجتك، إذا ضليت نايم لمين بدك تترك الوطن" ولم يحلّ عني يومها حتى انفجرت في وجهه.

في شهر آب من عام 2013، وقبل بدء رمضان بفترة، خططنا لعمل برنامج ساخر على موقع "يوتيوب" يقدمه عبد الوهاب، خلال رمضان، بعنوان "ثورة 3 نجوم" في محاولة لتسليط الضوء على المشكلات التي يعاني منها المجتمع في حلب الشرقية، ولكنّ عبد الوهاب، بشخصيته الاستثنائية، كان سليط اللسان، فلم تكن تمرّ حلقة واحدة دون أن "يضرب بمساميره الحادة" الفصائل الموجودة في المدينة، وفي إحدى الحلقات، تناول موضوعاً كان من "المحرمات" في المدينة التي تشهد تجاذباً كبيراً بين طرفين واحد يشدها نحو الأسلمة وآخر للنقيض، حيث ناقش موضوع "الدولة الإسلامية والدولة المدنية"، ما استدعى تنظيم "داعش" أن يطلبه لمقره الرئيسي في المدينة وخصوصاً أن حواجز التنظيم وعناصره لم يسلموا في مرة واحدة يمر فيها عليهم عبد الوهاب من لسانه السليط، لم يلق عبدالوهاب للطلب بالاً.. وبعد شهر وبضعة أيام، وتماماً بتاريخ 8- 11- 2013 طُرق شباك المضافة التي أحدثها عبد الوهاب في منزله، طرقات خفيفة، فتح الشباك، لتتمركز فوّهة بندقية في رأسه، ويقتحم آخرون عليه الغرفة، ويقتادوه منذ ذلك الحين إلى مكان مجهول، لم يعرف أحد بعدها أي خبر حقيقي، ولم تصل منه أية علامات.

وكان اليوم الذي رأيناه فيه أول مرة، هو عودته الأولى إلى غيابه الأخير..